صفحة جزء
حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلع .

في " صحيح البخاري " : عن ابن عباس رضي الله عنه : ( أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تردين عليه حديقته ؟ " قالت : نعم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقبل الحديقة وطلقها [ ص: 175 ] تطليقة ) .

وفي " سنن النسائي " عن الربيع بنت معوذ ( أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها ، وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي فأتى أخوها يشتكيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فقال : " خذ الذي لها عليك وخل سبيلها " قال : نعم . فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها ) .

وفي " سنن أبي داود " : عن ابن عباس : ( أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس اختلعت من زوجها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد حيضة ) .

وفي " سنن الدارقطني " في هذه القصة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أتردين عليه حديقته التي أعطاك " ؟ قالت : نعم وزيادة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما الزيادة فلا ولكن حديقته " قالت : نعم . فأخذ ماله وخلى سبيلها ، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال : قد قبلت قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . قال الدارقطني إسناده صحيح .

فتضمن هذا الحكم النبوي عدة أحكام :

أحدها : جواز الخلع كما دل عليه القرآن ، قال تعالى : [ ص: 176 ] ( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به [ البقرة : 229 ]

ومنع الخلع طائفة شاذة من الناس خالفت النص والإجماع .

وفي الآية دليل على جوازه مطلقا بإذن السلطان وغيره ، ومنعه طائفة بدون إذنه ، والأئمة الأربعة والجمهور على خلافه .

وفي الآية دليل على حصول البينونة به ؛ لأنه سبحانه سماه فدية ، ولو كان رجعيا كما قاله بعض الناس لم يحصل للمرأة الافتداء من الزوج بما بذلته له ، ودل قوله سبحانه : ( فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) على جوازه بما قل وكثر وأن له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها .

وقد ذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، أن الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته أنها اختلعت من زوجها بكل شيء تملكه فخوصم في ذلك إلى عثمان بن عفان ، فأجازه وأمره أن يأخذ عقاص رأسها فما دونه .

وذكر أيضا عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع : أن ابن عمر جاءته مولاة لامرأته اختلعت من كل شيء لها وكل ثوب لها حتى نقبتها .

ورفعت إلى عمر بن الخطاب امرأة نشزت عن زوجها فقال : ( اخلعها ولو من قرطها ) ذكره حماد بن سلمة عن أيوب عن كثير بن أبي كثير عنه .

[ ص: 177 ] وذكر عبد الرزاق عن معمر عن ليث عن الحكم بن عتيبة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( لا يأخذ منها فوق ما أعطاها ) .

وقال طاووس : لا يحل أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ، وقال عطاء : إن أخذ زيادة على صداقها ، فالزيادة مردودة إليها .

وقال الزهري : لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها .

وقال ميمون بن مهران : إن أخذ منها أكثر مما أعطاها لم يسرح بإحسان .

وقال الأوزاعي : كانت القضاة لا تجيز أن يأخذ منها شيئا إلا ما ساق إليها .

والذين جوزوه احتجوا بظاهر القرآن وآثار الصحابة ، والذين منعوه احتجوا بحديث أبي الزبير أن ثابت بن قيس بن شماس لما أراد خلع امرأته قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أتردين عليه حديقته " ؟ قالت : نعم وزيادة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما الزيادة فلا ) . قال الدارقطني سمعه أبو الزبير من غير واحد وإسناده صحيح .

قالوا : والآثار من الصحابة مختلفة ، فمنهم من روي عنه تحريم الزيادة ، ومنهم من روي عنه إباحتها ، ومنهم من روي عنه كراهتها ، كما روى وكيع عن أبي حنيفة عن عمار بن عمران الهمداني عن أبيه عن علي رضي الله عنه : أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها ، والإمام أحمد أخذ بهذا القول ونص على الكراهة ، وأبو بكر من أصحابه حرم الزيادة وقال : ترد عليها .

وقد ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قال لي عطاء أتت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أبغض زوجي وأحب فراقه قال [ ص: 178 ] ( فتردين عليه حديقته التي أصدقك " ؟ قالت : نعم وزيادة من مالي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما الزيادة من مالك فلا ولكن الحديقة " قالت : نعم ) فقضى بذلك على الزوج وهذا وإن كان مرسلا فحديث أبي الزبير مقو له وقد رواه ابن جريج عنهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية