صفحة جزء
قال المانعون من وقوع الطلاق المحرم : لا يزال النكاح المتيقن إلا بيقين مثله من كتاب ، أو سنة ، أو إجماع متيقن . فإذا أوجدتمونا واحدا من هذه الثلاثة ، رفعنا حكم النكاح به ، لا سبيل إلى رفعه بغير ذلك . قالوا : وكيف والأدلة المتكاثرة تدل على عدم وقوعه ، فإن هذا الطلاق لم يشرعه الله تعالى البتة ، ولا أذن فيه ، فليس في شرعه ، فكيف يقال بنفوذه وصحته ؟ .

قالوا : وإنما يقع من الطلاق المحرم ما ملكه الله تعالى للمطلق ، ولهذا لا يقع به الرابعة ؛ لأنه لم يملكها إياه ، ومن المعلوم أنه لم يملكه الطلاق المحرم ، ولا أذن له فيه ، فلا يصح ، ولا يقع .

قالوا : ولو وكل وكيلا أن يطلق امرأته طلاقا جائزا ، فطلق طلاقا [ ص: 204 ] محرما لم يقع ، لأنه غير مأذون له فيه ، فكيف كان إذن المخلوق معتبرا في صحة إيقاع الطلاق دون إذن الشارع ، ومن المعلوم أن المكلف إنما يتصرف بالإذن ، فما لم يأذن به الله ورسوله لا يكون محلا للتصرف البتة .

قالوا : وأيضا فالشارع قد حجر على الزوج أن يطلق في حال الحيض أو بعد الوطء في الطهر ، فلو صح طلاقه لم يكن لحجر الشارع معنى ، وكان حجر القاضي على من منعه التصرف أقوى من حجر الشارع حيث يبطل التصرف بحجره .

قالوا : وبهذا أبطلنا البيع وقت النداء يوم الجمعة ؛ لأنه بيع حجر الشارع على بائعه هذا الوقت ، فلا يجوز تنفيذه وتصحيحه .

قالوا : ولأنه طلاق محرم منهي عنه ، فالنهي يقتضي فساد المنهي عنه ، فلو صححناه لكان لا فرق بين المنهي عنه والمأذون فيه من جهة الصحة والفساد .

قالوا : وأيضا فالشارع إنما نهى عنه وحرمه ، لأنه يبغضه ، ولا يحب وقوعه ، بل وقوعه مكروه إليه ، فحرمه لئلا يقع ما يبغضه ويكرهه ، وفي تصحيحه وتنفيذه ضد هذا المقصود .

قالوا : وإذا كان النكاح المنهي عنه لا يصح لأجل النهي ، فما الفرق بينه وبين الطلاق ، وكيف أبطلتم ما نهى الله عنه من النكاح ، وصححتم ما حرمه ونهى عنه من الطلاق ، والنهي يقتضي البطلان في الموضعين ؟

قالوا : ويكفينا من هذا حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العام الذي لا تخصيص فيه برد ما خالف أمره وإبطاله وإلغائه ، كما في " الصحيح " عنه ، من حديث عائشة - رضي الله عنها - : ( كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ) ، وفي رواية ( من [ ص: 205 ] عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) . وهذا صريح أن هذا الطلاق المحرم الذي ليس عليه أمره - صلى الله عليه وسلم - مردود باطل ، فكيف يقال : إنه صحيح لازم نافذ ؟ فأين هذا من الحكم برده ؟

قالوا : وأيضا فإنه طلاق لم يشرعه الله أبدا ، وكان مردودا باطلا كطلاق الأجنبية ، ولا ينفعكم الفرق بأن الأجنبية ليست محلا للطلاق بخلاف الزوجة ، فإن هذه الزوجة ليست محلا للطلاق المحرم ، ولا هو مما ملكه الشارع إياه .

قالوا : وأيضا فإن الله سبحانه إنما أمر بالتسريح بإحسان ، ولا أشر من التسريح الذي حرمه الله ورسوله ، وموجب عقد النكاح أحد أمرين : إما إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان ، والتسريح المحرم أمر ثالث غيرهما ، فلا عبرة به البتة .

قالوا : وقد قال الله تعالى : ( ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) ، وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المبين عن الله مراده من كلامه ، أن الطلاق المشروع المأذون فيه هو الطلاق في زمن الطهر الذي لم يجامع فيه ، أو بعد استبانة الحمل ، وما عداهما فليس بطلاق للعدة في حق المدخول بها ، فلا يكون طلاقا ، فكيف تحرم المرأة به ؟

قالوا : وقد قال تعالى : ( الطلاق مرتان ) [ البقرة : 269 ] ، ومعلوم أنه إنما أراد الطلاق المأذون فيه ، وهو الطلاق للعدة ، فدل على أن ما عداه ليس من الطلاق ، فإنه حصر الطلاق المشروع المأذون فيه الذي يملك به الرجعة في مرتين ، فلا يكون ما عداه طلاقا . قالوا : ولهذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - يقولون : إنهم لا طاقة لهم بالفتوى في الطلاق المحرم ، كما روى ابن وهب ، عن جرير بن حازم ، عن الأعمش أن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: [ ص: 206 ] ( من طلق كما أمره الله ، فقد بين الله له ، ومن خالف ، فإنا لا نطيق خلافه ، ولو وقع طلاق المخالف لم يكن الإفتاء به غير مطاق لهم ، ولم يكن للتفريق معنى إذ كان النوعان واقعين نافذين ) .

( وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - أيضا : من أتى الأمر على وجهه فقد بين الله له ، وإلا فوالله ما لنا طاقة بكل ما تحدثون ) .

وقال بعض الصحابة وقد سئل عن الطلاق الثلاث مجموعة : ( من طلق كما أمر ، فقد بين له ، ومن لبس تركناه وتلبيسه ) .

قالوا : ويكفي من ذلك كله ( ما رواه أبو داود بالسند الصحيح الثابت : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا ابن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر قال أبو الزبير وأنا أسمع : كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا ؟ فقال : طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض ، قال عبد الله : فردها علي ولم يرها شيئا ، وقال : إذا طهرت ، فليطلق أو ليمسك ، قال ابن عمر : وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن ) في قبل عدتهن .

قالوا : وهذا إسناد في غاية الصحة ، فإن أبا الزبير غير مدفوع عن الحفظ والثقة ، وإنما يخشى من تدليسه ، فإذا قال : سمعت أو حدثني ، زال محذور التدليس ، وزالت العلة المتوهمة ، وأكثر أهل الحديث يحتجون به إذا قال : " عن " ولم يصرح بالسماع ، ومسلم يصحح ذلك من حديثه ، فأما إذا صرح بالسماع ، فقد زال الإشكال ، وصح الحديث ، وقامت الحجة .

قالوا : ولا نعلم في خبر أبي الزبير هذا ما يوجب رده ، وإنما رده من [ ص: 207 ] رده استبعادا واعتقادا أنه خلاف الأحاديث الصحيحة ، ونحن نحكي كلام من رده ، ونبين أنه ليس فيه ما يوجب الرد .

قال أبو داود : والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير .

وقال الشافعي : ونافع أثبت عن ابن عمر من أبي الزبير ، والأثبت من الحديثين أولى أن يقال به إذا خالفه .

وقال الخطابي : حديث يونس بن جبير أثبت من هذا ، يعني قوله : ( مره فليراجعها " ، وقوله : " أرأيت إن عجز واستحمق " ؟ قال: فمه ) .

قال ابن عبد البر : وهذا لم ينقله عنه أحد غير أبي الزبير ، وقد رواه عنه جماعة أجلة ، فلم يقل ذلك أحد منهم ، وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله ، فكيف بخلاف من هو أثبت منه .

وقال بعض أهل الحديث : لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا .

فهذا جملة ما رد به خبر أبي الزبير ، وهو عند التأمل لا يوجب رده ولا بطلانه .

التالي السابق


الخدمات العلمية