صفحة جزء
فصل

وقد تبين بما ذكرنا أن من حرم شيئا غير الزوجة من الطعام والشراب واللباس أو أمته لم يحرم عليه بذلك ، وعليه كفارة يمين ، وفي هذا خلاف في ثلاثة مواضع .

أحدها : أنه لا يحرم ، وهذا قول الجمهور ، وقال أبو حنيفة : يحرم تحريما مقيدا تزيله الكفارة ، كما إذا ظاهر من امرأته ، فإنه لا يحل له وطؤها حتى يكفر ، ولأن الله سبحانه سمى الكفارة في ذلك تحلة ، وهي ما يوجب الحل ، فدل على ثبوت التحريم قبلها ، ولأنه سبحانه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( لم تحرم ما أحل الله لك ) ، ولأنه تحريم لما أبيح له ، فيحرم بتحريمه كما لو حرم زوجته .

ومنازعوه يقولون : إنما سميت الكفارة تحلة من الحل الذي هو ضد العقد ، لا من الحل الذي هو مقابل التحريم ، فهي تحل اليمين بعد عقدها ، وأما قوله : ( لم تحرم ما أحل الله لك ) فالمراد تحريم الأمة أو العسل ، ومنع نفسه منه ، وذلك يسمى تحريما ، فهو تحريم بالقول لا إثبات للتحريم شرعا .

وأما قياسه على تحريم الزوجة بالظهار ، أو بقوله : أنت علي حرام ، فلو [ ص: 286 ] صح هذا القياس لوجب تقديم التكفير على الحنث قياسا على الظهار ، إذ كان في معناه ، وعندهم لا يجوز التكفير إلا بعد الحنث ، فعلى قولهم يلزم أحد أمرين : ولا بد إما أن يفعله حراما ، وقد فرض الله تحلة اليمين ، فيلزم كون المحرم مفروضا أو من ضرورة المفروض ؛ لأنه لا يصل إلى التحلة إلا بفعل المحلوف عليه ، أو أنه لا سبيل له إلى فعله حلالا ؛ لأنه لا يجوز تقديم الكفارة ، فيستفيد بها الحل ، وإقدامه عليه ، وهو حرام ممتنع ، هذا ما قيل في المسألة من الجانبين .

وبعد ، فلها غور ، وفيها دقة وغموض ، فإن من حرم شيئا ، فهو بمنزلة من حلف بالله على تركه ، ولو حلف على تركه لم يجز له هتك حرمة المحلوف به بفعله ، إلا بالتزام الكفارة ، فإذا التزمها جاز له الإقدام على فعل المحلوف عليه ، فلو عزم على ترك الكفارة ، فإن الشارع لا يبيح له الإقدام على فعل ما حلف عليه ، ويأذن له فيه ، وإنما يأذن له فيه ويبيحه ، إذا التزم ما فرض الله من الكفارة ، فيكون إذنه له فيه وإباحته بعد امتناعه منه بالحلف أو التحريم رخصة من الله له ، ونعمة منه عليه ، بسبب التزامه لحكمه الذي فرض له من الكفارة ، فإذا لم يلتزمه بقي المنع الذي عقده على نفسه إصرا عليه ، فإن الله إنما رفع الآصار عمن اتقاه ، والتزم حكمه ، وقد كانت اليمين في شرع من قبلنا يتحتم الوفاء بها ، ولا يجوز الحنث ، فوسع الله على هذه الأمة وجوز لها الحنث بشرط الكفارة ، فإذا لم يكفر لا قبل ولا بعد لم يوسع له في الحنث فهذا معنى قوله : إنه يحرم حتى يكفر .

وليس هذا من مفردات أبي حنيفة ، بل هو أحد القولين في مذهب أحمد ، يوضحه : أن هذا التحريم والحلف قد تعلق به منعان : منع من نفسه لفعله ، ومنع من الشارع للحنث بدون الكفارة ، فلو لم يحرمه تحريمه أو يمينه ، لم يكن لمنعه نفسه ، ولا لمنع الشارع له أثر ، بل كان غاية الأمر أن الشارع أوجب في ذمته بهذا المنع صدقة ، أو عتقا ، أو صوما لا يتوقف عليه حل المحلوف عليه ولا تحريمه البتة ، بل هو قبل المنع وبعده على السواء من غير فرق ، فلا يكون للكفارة أثر البتة ، لا في المنع منه ، ولا في الإذن ، وهذا لا يخفى فساده .

[ ص: 287 ] وأما إلزامه بالإقدام عليه مع تحريمه حيث لا يجوز تقديم الكفارة ، فجوابه أنه إنما يجوز له الإقدام عند عزمه على التكفير ، فعزمه على التكفير منع من بقاء تحريمه عليه ، وإنما يكون التحريم ثابتا إذا لم يلتزم الكفارة ، ومع التزامها لا يستمر التحريم .

التالي السابق


الخدمات العلمية