صفحة جزء
حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإيلاء

ثبت في " صحيح البخاري " : عن أنس قال : ( آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وكانت انفكت رجله فأقام في مشربة له تسعا وعشرين ليلة ثم نزل فقالوا : يا رسول الله آليت شهرا فقال : " إن الشهر يكون تسعا وعشرين ) وقد قال سبحانه ( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم ) [ البقرة : 226 ] [ ص: 311 ]

( وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ) الإيلاء لغة : الامتناع باليمين ، وخص في عرف الشرع بالامتناع باليمين من وطء الزوجة ، ولهذا عدي فعله بأداة " من " تضمينا له معنى " يمتنعون " من نسائهم ، وهو أحسن من إقامة " من " مقام " على " ، وجعل سبحانه للأزواج مدة أربعة أشهر يمتنعون فيها من وطء نسائهم بالإيلاء ، فإذا مضت ، فإما أن يفيء ، وإما أن يطلق ، وقد اشتهر عن علي وابن عباس أن الإيلاء إنما يكون في حال الغضب دون الرضى ، كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه ، وظاهر القرآن مع الجمهور .

وقد تناظر في هذه المسألة محمد بن سيرين ، ورجل آخر ، فاحتج على محمد بقول علي ، فاحتج عليه محمد بالآية ، فسكت . وقد دلت الآية على أحكام .

منها : هذا. ومنها : أن من حلف على ترك الوطء أقل من أربعة أشهر لم يكن مؤليا ، وهذا قول الجمهور ، وفيه قول شاذ أنه مؤل .

ومنها : أنه لا يثبت له حكم الإيلاء حتى يحلف على أكثر من أربعة أشهر ، فإن كانت مدة الامتناع أربعة أشهر ، لم يثبت له حكم الإيلاء ؛ لأن الله جعل لهم مدة أربعة أشهر وبعد انقضائها إما أن يطلقوا ، وإما أن يفيئوا ، وهذا قول الجمهور ، منهم أحمد ، والشافعي ، ومالك ، وجعله أبو حنيفة مؤليا بأربعة أشهر سواء ، وهذا بناء على أصله أن المدة المضروبة أجل لوقوع الطلاق بانقضائها ، والجمهور يجعلون المدة أجلا لاستحقاق المطالبة ، وهذا موضع اختلف فيه السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ومن بعدهم ، فقال الشافعي : حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يسار ، قال : ( أدركت بضعة عشر [ ص: 312 ] رجلا من الصحابة كلهم يوقف المؤلي ) يعني : بعد أربعة أشهر .

وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه ، قال : ( سألت اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المؤلي ، فقالوا : ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر ) وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم . ( وقال عبد الله بن مسعود ، وزيد بن ثابت : إذا مضت أربعة أشهر ، ولم يفئ فيها ، طلقت منه بمضيها ) وهذا قول جماعة من التابعين ، وقول أبي حنيفة وأصحابه ، فعند هؤلاء يستحق المطالبة قبل مضي الأربعة الأشهر ، فإن فاء وإلا طلقت بمضيها. وعند الجمهور لا يستحق المطالبة حتى تمضي الأربعة الأشهر ، فحينئذ يقال : إما أن تفيء ، وإما أن تطلق ، وإن لم يفئ أخذ بإيقاع الطلاق ، إما بالحاكم ، وإما بحبسه حتى يطلق .

قال الموقعون للطلاق بمضي المدة : آية الإيلاء تدل على ذلك من ثلاثة أوجه .

أحدها : أن عبد الله بن مسعود قرأ " فإن فاءوا فيهن فإن الله غفور رحيم " فإضافة الفيئة إلى المدة تدل على استحقاق الفيئة فيها ، وهذه القراءة إما أن تجرى مجرى الخبر الواحد ، فتوجب العمل ، وإن لم توجب كونها من القرآن ، وإما أن تكون قرآنا نسخ لفظه ، وبقي حكمه ، لا يجوز فيها غير هذا البتة .

الثاني : أن الله سبحانه جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر ، فلو كانت الفيئة بعدها لزادت على مدة النص ، وذلك غير جائز .

[ ص: 313 ]

الثالث : أنه لو وطئها في مدة الإيلاء لوقعت الفيئة موقعها ، فدل على استحقاق الفيئة فيها . قالوا : ولأن الله سبحانه وتعالى جعل لهم تربص أربعة أشهر ثم قال : ( فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق ) وظاهر هذا أن هذا التقسيم في المدة التي لهم فيها تربص ، كما إذا قال لغريمه : أصبر عليك بديني أربعة أشهر ، فإن وفيتني وإلا حبستك ، ولا يفهم من هذا إلا إن وفيتني في هذه المدة ، ولا يفهم منه إن وفيتني بعدها ، وإلا كانت مدة الصبر أكثر من أربعة أشهر ، وقراءة ابن مسعود صريحة في تفسير الفيئة بأنها في المدة ، وأقل مراتبها أن تكون تفسيرا .

قالوا : ولأنه أجل مضروب للفرقة ، فتعقبه الفرقة ، كالعدة وكالأجل الذي ضرب لوقوع الطلاق ، كقوله : إذا مضت أربعة أشهر فأنت طالق .

قال الجمهور : لنا من آية الإيلاء عشرة أدلة .

أحدها : أنه أضاف مدة الإيلاء إلى الأزواج ، وجعلها لهم ، ولم يجعلها عليهم ، فوجب ألا يستحق المطالبة فيها ، بل بعدها ، كأجل الدين ، ومن أوجب المطالبة فيها لم يكن عنده أجلا لهم ، ولا يعقل كونها أجلا لهم ، ويستحق عليهم فيها المطالبة .

الدليل الثاني : قوله : ( فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم ) فذكر الفيئة بعد المدة بفاء التعقيب ، وهذا يقتضي أن يكون بعد المدة ، ونظيره قوله سبحانه : ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) [البقرة : 229] . وهذا بعد الطلاق قطعا . فإن قيل : فاء التعقيب توجب أن يكون بعد الإيلاء لا بعد المدة ؟ قيل : قد تقدم في الآية ذكر الإيلاء ، ثم تلاه ذكر المدة ، ثم أعقبها بذكر الفيئة ، فإذا أوجبت الفاء التعقيب بعد ما تقدم ذكره ، لم يجز أن يعود إلى أبعد المذكورين ، ووجب عودها إليهما ، أو إلى أقربهما .

[ ص: 314 ]

الدليل الثالث : قوله : ( وإن عزموا الطلاق ) [البقرة : 227] وإنما العزم ما عزم العازم على فعله ، كقوله تعالى : ( ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ) [ البقرة : 235 ] فإن قيل : فترك الفيئة عزم على الطلاق ؟ قيل : العزم هو إرادة جازمة لفعل المعزوم عليه أو تركه ، وأنتم توقعون الطلاق بمجرد مضي المدة ، وإن لم يكن منه عزم لا على وطء ، ولا على تركه ، بل لو عزم على الفيئة ولم يجامع طلقتم عليه بمضي المدة ، ولم يعزم الطلاق ، فكيفما قدرتم فالآية حجة عليكم .

الدليل الرابع : أن الله سبحانه خيره في الآية بين أمرين : الفيئة أو الطلاق ، والتخيير بين أمرين لا يكون إلا في حالة واحدة كالكفارات ، ولو كان في حالتين ، لكان ترتيبا لا تخييرا ، وإذا تقرر هذا فالفيئة عندكم في نفس المدة ، وعزم الطلاق بانقضاء المدة ، فلم يقع التخيير في حالة واحدة .

فإن قيل : هو مخير بين أن يفيء في المدة ، وبين أن يترك الفيئة ، فيكون عازما للطلاق بمضي المدة . قيل : ترك الفيئة لا يكون عزما للطلاق ، وإنما يكون عزما عندكم إذا انقضت المدة ، فلا يتأتى التخيير بين عزم الطلاق ، وبين الفيئة البتة ، فإنه بمضي المدة يقع الطلاق عندكم فلا يمكنه الفيئة ، وفي المدة يمكنه الفيئة ، ولم يحضر وقت عزم الطلاق الذي هو مضي المدة ، وحينئذ فهذا دليل خامس مستقل .

الدليل السادس : أن التخيير بين أمرين يقتضي أن يكون فعلهما إليه ليصح منه اختيار فعل كل منهما وتركه ، وإلا لبطل حكم خياره ، ومضي المدة ليس إليه .

الدليل السابع : أنه سبحانه قال : ( وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ) فاقتضى أن يكون الطلاق قولا يسمع ، ليحسن ختم الآية بصفة السمع .

الدليل الثامن : أنه لو قال لغريمه : لك أجل أربعة أشهر ، فإن وفيتني قبلت [ ص: 315 ] منك ، وإن لم توفني حبستك ، كان مقتضاه أن الوفاء والحبس بعد المدة لا فيها : ولا يعقل المخاطب غير هذا . فإن قيل : ما نحن فيه نظير قوله لك الخيار ثلاثة أيام ، فإن فسخت البيع ، وإلا لزمك ، ومعلوم أن الفسخ إنما يقع في الثلاث لا بعدها ؟ قيل هذا من أقوى حججنا عليكم ، فإن موجب العقد اللزوم ، فجعل له الخيار في مدة ثلاثة أيام ، فإذا انقضت ولم يفسخ ، عاد العقد إلى حكمه ، وهو اللزوم ، وهكذا الزوجة لها حق على الزوج في الوطء ، كما له حق عليها ، قال تعالى : ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) [البقرة : 228] فجعل له الشارع امتناع أربعة أشهر لا حق لها فيهن ، فإذا انقضت المدة عادت على حقها بموجب العقد ، وهو المطالبة لا وقوع الطلاق ، وحينئذ فهذا دليل تاسع مستقل .

الدليل العاشر أنه سبحانه جعل للمؤلين شيئا ، وعليهم شيئين ، فالذي لهم تربص المدة المذكورة ، والذي عليهم إما الفيئة ، وإما الطلاق ، وعندكم ليس عليهم إلا الفيئة فقط ، وأما الطلاق فليس عليهم ، بل ولا إليهم ، وإنما هو إليه سبحانه عند انقضاء المدة ، فيحكم بطلاقها عقيب انقضاء المدة ، شاء أو أبى ، ومعلوم أن هذا ليس إلى المؤلي ولا عليه ، وهو خلاف ظاهر النص .

قالوا : ولأنها يمين بالله تعالى توجب الكفارة ، فلم يقع بها الطلاق كسائر الأيمان ، ولأنها مدة قدرها الشرع لم تتقدمها الفرقة ، فلا يقع بها بينونة كأجل العنين ، ولأنه لفظ لا يصح أن يقع به الطلاق المعجل ، فلم يقع به المؤجل كالظهار ، ولأن الإيلاء كان طلاقا في الجاهلية فنسخ كالظهار ، فلا يجوز أن يقع به الطلاق ؛ لأنه استيفاء للحكم المنسوخ ، ولما كان عليه أهل الجاهلية .

قال الشافعي : كانت الفرق الجاهلية تحلف بثلاثة أشياء بالطلاق والظهار والإيلاء ، فنقل الله سبحانه وتعالى الإيلاء والظهار عما كانا عليه في الجاهلية من إيقاع الفرقة على الزوجة إلى ما استقر عليه حكمهما في الشرع ، [ ص: 316 ] وبقي حكم الطلاق على ما كان عليه هذا لفظه .

قالوا : ولأن الطلاق إنما يقع بالصريح والكناية ، وليس الإيلاء واحدا منهما ، إذ لو كان صريحا لوقع معجلا إن أطلقه ، أو إلى أجل مسمى إن قيده ، ولو كان كناية لرجع فيه إلى نيته ، ولا يرد على هذا اللعان ، فإنه يوجب الفسخ دون الطلاق ، والفسخ يقع بغير قول ، والطلاق لا يقع إلا بالقول .

قالوا : وأما قراءة ابن مسعود فغايتها أن تدل على جواز الفيئة في مدة التربص ، لا على استحقاق المطالبة بها في المدة ، وهذا حق لا ننكره .

وأما قولكم : جواز الفيئة في المدة دليل على استحقاقها فيها ، فهو باطل بالدين المؤجل .

وأما قولكم : إنه لو كانت الفيئة بعد المدة لزادت على أربعة أشهر ، فليس بصحيح ؛ لأن الأربعة الأشهر مدة لزمن الصبر الذي لا يستحق فيه المطالبة ، فبمجرد انقضائها يستحق عليه الحق ، فلها أن تعجل المطالبة به . وإما أن تنظره ، وهذا كسائر الحقوق المعلقة بآجال معدودة ، إنما تستحق عند انقضاء آجالها ، ولا يقال : إن ذلك يستلزم الزيادة على الأجل ، فكذا أجل الإيلاء سواء .

التالي السابق


الخدمات العلمية