صفحة جزء
فصل

ومنها : أن الحمل ينتفي بلعانه ، ولا يحتاج أن يقول : وما هذا الحمل مني ، ولا يحتاج أن يقول : وقد استبرأتها ، هذا قول أبي بكر عبد العزيز ، من أصحاب أحمد ، وقول بعض أصحاب مالك ، وأهل الظاهر . وقال الشافعي : يحتاج الرجل إلى ذكر الولد ، ولا تحتاج المرأة إلى ذكره ، وقال الخرقي وغيره : يحتاجان إلى ذكره ، وقال القاضي : يشترط أن يقول : هذا الولد من زنى ، وليس هو مني . وهو [ ص: 342 ] قول الشافعي ، وقول أبي بكر أصح الأقوال ، وعليه تدل السنة الثابتة .

فإن قيل : فقد روى مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين رجل وامرأته ، وانتفى من ولدها ، ففرق بينهما وألحق الولد بالمرأة ) .

وفي حديث سهل بن سعد : وكانت حاملا فأنكر حملها .

وقد حكم صلى الله عليه وسلم ( بأن الولد للفراش ) وهذه كانت فراشا له حال كونها حاملا ، فالولد له ، فلا ينتفي عنه إلا بنفيه .

قيل : هذا موضع تفصيل لا بد منه ، وهو أن الحمل إن كان سابقا على ما رماها به وعلم أنها زنت وهي حامل منه ، فالولد له قطعا ، ولا ينتفي عنه بلعانه ، ولا يحل له أن ينفيه عنه في اللعان ، فإنها لما علقت به كانت فراشا له ، وكان الحمل لاحقا به ، فزناها لا يزيل حكم لحوقه به . وإن لم يعلم حملها حال زناها الذي قد قذفها به فهذا ينظر فيه ؛ فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من الزنى الذي رماها به فالولد له ، ولا ينتفي عنه بلعانه ، وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر من الزنى الذي رماها به نظر ؛ فإما أن يكون استبرأها قبل زناها أو لم يستبرئها ، فإن كان استبرأها انتفى الولد عنه بمجرد اللعان سواء نفاه أو لم ينفه ، ولا بد من ذكره عند من يشترط ذكره ، وإن لم يستبرئها فهاهنا أمكن أن يكون الولد منه ، وأن يكون من الزاني ، فإن نفاه في اللعان انتفى ، وإلا لحق به ؛ لأنه أمكن كونه منه ، ولم ينفه .

[ ص: 343 ] فإن قيل : فالنبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بعد اللعان ، ونفى الولد بأنه إن جاء يشبه الزوج صاحب الفراش فهو له ، وإن جاء يشبه الذي رميت به فهو له ، فما قولكم في مثل هذه الواقعة إذا لاعن امرأته وانتفى من ولدها ، ثم جاء الولد يشبهه ، هل تلحقونه به بالشبه عملا بالقافة ، أو تحكمون بانقطاع نسبه منه عملا بموجب لعانه ؟ قيل : هذا مجال ضنك وموضع ضيق تجاذب أعنته اللعان المقتضي لانقطاع النسب وانتفاء الولد ، وأنه يدعى لأمه ، ولا يدعى لأب ، والشبه الدال على ثبوت نسبه من الزوج ، وأنه ابنه مع شهادة النبي صلى الله عليه وسلم بأنها إن جاءت به على شبهه فالولد له ، وأنه كذب عليها ، فهذا مضيق لا يتخلص منه إلا المستبصر البصير بأدلة الشرع وأسراره ، والخبير بجمعه وفرقه الذي سافرت به همته إلى مطلع الأحكام والمشكاة التي منها ظهر الحلال والحرام .

والذي يظهر في هذا ، والله المستعان وعليه التكلان ، أن حكم اللعان قطع حكم الشبه ، وصار معه بمنزلة أقوى الدليلين مع أضعفهما ، فلا عبرة للشبه بعد مضي حكم اللعان في تغيير أحكامه ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر عن شأن الولد وشبهه ليغير بذلك حكم اللعان ، وإنما أخبر عنه ليتبين الصادق منهما من الكاذب ، الذي قد استوجب اللعنة والغضب ، فهو إخبار عن أمر قدري كوني يتبين به الصادق من الكاذب بعد تقرر الحكم الديني ، وأن الله سبحانه سيجعل في الولد دليلا على ذلك ، ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بعد انتفائه من الولد وقال : ( إن جاءت به كذا وكذا فلا أراه إلا صدق عليها ، وإن جاءت به كذا وكذا فلا أراه إلا كذب عليها ) فجاءت به على النعت المكروه ، فعلم أنه صدق عليها ولم يعرض لها ، ولم يفسخ حكم اللعان ، فيحكم عليها بحكم الزانية مع العلم بأنه صدق عليها ، فكذلك لو جاءت به على شبه الزوج يعلم أنه كذب عليها ، ولا يغير ذلك حكم اللعان فيحد الزوج ويلحق به الولد ، فليس قوله : إن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية إلحاقا له به في الحكم ، كيف وقد نفاه باللعان ، وانقطع نسبه به ، كما أن قوله : وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي رميت به . ليس إلحاقا به وجعله ابنه ، وإنما هو إخبار عن [ ص: 344 ] الواقع ، وهذا كما لو حكم بأيمان القسامة ، ثم أظهر الله سبحانه آية تدل على كذب الحالفين لم ينتقض حكمها بذلك ، وكذا لو حكم بالبراءة من الدعوى بيمين ، ثم أظهر الله سبحانه آية تدل على أنها يمين فاجرة لم يبطل الحكم بذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية