صفحة جزء
فصل وقد ضبط الشيخ في " المغني " هذا الباب بضابط آخر ، فقال : فصل في بيان الأولى فالأولى من أهل الحضانة عند اجتماع الرجال والنساء .

وأولى الكل بها : الأم ، ثم أمهاتها وإن علون يقدم منهن الأقرب فالأقرب ؛ لأنهن نساء ولادتهن متحققة ، فهن في معنى الأم ، وعن أحمد أن أم الأب وأمهاتها يقدمن على أم الأم ، فعلى هذه الرواية يكون الأب أولى بالتقديم ؛ لأنهن يدلين به ، فيكون الأب [ ص: 401 ] بعد الأم ، ثم أمهاته ، والأولى هي المشهورة عند أصحابنا ، فإن المقدم الأم ، ثم أمهاتها ، ثم الأب ، ثم أمهاته ، ثم الجد ، ثم أمهاته ، ثم جد الأب ، ثم أمهاته وإن كن غير وارثات ؛ لأنهن يدلين بعصبة من أهل الحضانة ، بخلاف أم أب الأم . وحكي عن أحمد رواية أخرى : أن الأخت من الأم والخالة أحق من الأب ، فتكون الأخت من الأبوين أحق منه ، ومنهما ، ومن جميع العصبات ، والأولى هي المشهورة من المذهب ، فإذا انقرض الآباء والأمهات انتقلت الحضانة إلى الأخوات ، وتقدم الأخت من الأبوين ، ثم الأخت من الأب ، ثم الأخت من الأم ، وتقدم الأخت على الأخ ؛ لأنها امرأة من أهل الحضانة ، فقدمت على من في درجتها من الرجال ، كالأم تقدم على الأب ، وأم الأب على أب الأب ، وكل جدة في درجة جد تقدم عليه ؛ لأنها تلي الحضانة بنفسها ، والرجل لا يليها بنفسه .

وفيه وجه آخر : أنه يقدم عليها لأنه عصبة بنفسه ، والأول أولى ، وفي تقديم الأخت من الأبوين ، أو من الأب على الجد وجهان ، وإذا لم تكن أخت فالأخ للأبوين أولى ، ثم الأخ للأب ، ثم ابناهما ، ولا حضانة للأخ من الأم لما ذكرنا .

فإذا عدموا صارت الحضانة للخالات على الصحيح ، وترتيبهن فيها كترتيب الأخوات ، ولا حضانة للأخوال ، فإذا عدموا صارت للعمات ، ويقدمن على الأعمام كتقديم الأخوات على الإخوة ، ثم للعم للأبوين ، ثم للعم للأب ، ولا حضانة للعم من الأم ، ثم ابناهما ، ثم إلى خالات الأب على قول الخرقي ، وعلى القول الآخر : إلى خالات الأم ، ثم إلى عمات الأب ، ولا حضانة لعمات الأم ؛ لأنهن يدلين بأب الأم ، ولا حضانة له . وإن اجتمع شخصان أو أكثر من أهل الحضانة في درجة قدم المستحق منهم بالقرعة ، انتهى كلامه .

وهذا خير مما قبله من الضوابط ، ولكن فيه تقديم أم الأم ، وإن علت على الأب وأمهاته ، فإن طرد تقديم من في جهة الأم على من في جهة الأب جاءت تلك اللوازم الباطلة ، وهو لم يطرده ، وإن قدم بعض من في جهة الأب على بعض من في جهة الأم كما فعل - طولب بالفرق وبمناط التقديم .

[ ص: 402 ] وفيه إثبات الحضانة للأخت من الأم دون الأخ من الأم ، وهو في درجتها ومساو لها من كل وجه ، فإن كان ذلك لأنوثتها وهو ذكر ، انتقض برجال العصبة كلهم ، وإن كان ذلك لكونه ليس من العصبة ، والحضانة لا تكون لرجل إلا أن يكون من العصبة . قيل : فكيف جعلتموها لنساء ذوي الأرحام مع مساواة قرابتهن لقرابة من في درجتهن من الذكور من كل وجه ؟ فإما أن تعتبروا الأنوثة فلا تجعلوها للذكر ، أو الميراث فلا تجعلوها لغير وارث ، أو القرابة فلا تمنعوا منها الأخ من الأم والخال وأبا الأم أو التعصيب ، فلا تعطوها لغير عصبة .

فإن قلتم : بقي قسم آخر وهو قولنا ، وهو اعتبار التعصيب في الذكور والقرابة في النساء .

قيل : هذا مخالف لباب الولايات ، وباب الميراث ، والحضانة ولاية على الطفل ، فإن سلكتم بها مسلك الولايات فخصوها بالأب والجد ، وإن سلكتم بها مسلك الميراث فلا تعطوها لغير وارث ، وكلاهما خلاف قولكم وقول الناس أجمعين .

وفي كلامه أيضا : تقديم ابن الأخ وإن نزلت درجته على الخالة التي هي أم ، وهو في غاية البعد ، وجمهور الأصحاب إنما جعلوا أولاد الإخوة بعد أب الأب والعمات وهو الصحيح ، فإن الخالة أخت الأم ، وبها تدلي ، والأم مقدمة على الأب ، وابن الأخ إنما يدلي بالأخ الذي يدلي بالأب ، فكيف يقدم على الخالة ! وكذا العمة أخت الأب وشقيقته ، فكيف يقدم ابن ابنه عليها !

وقد ضبط هذا الباب شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية بضابط آخر ، فقال : أقرب ما يضبط به باب الحضانة أن يقال : لما كانت الحضانة ولاية تعتمد الشفقة والتربية والملاطفة كان أحق الناس بها أقومهم بهذه الصفات وهم أقاربه يقدم منهم أقربهم إليه وأقومهم بصفات الحضانة . فإن اجتمع منهم اثنان فصاعدا ، فإن استوت درجتهم قدم الأنثى على الذكر ، فتقدم الأم على الأب ، والجدة على [ ص: 403 ] الجد ، والخالة على الخال ، والعمة على العم ، والأخت على الأخ . فإن كانا ذكرين أو أنثيين ، قدم أحدهما بالقرعة يعني مع استواء درجتهما ، وإن اختلفت درجتهما من الطفل ، فإن كانوا من جهة واحدة قدم الأقرب إليه ، فتقدم الأخت على ابنتها ، والخالة على خالة الأبوين ، وخالة الأبوين على خالة الجد، والجدة والجد أبو الأم على الأخ للأم ، هذا هو الصحيح ؛ لأن جهة الأبوة والأمومة في الحضانة أقوى من جهة الأخوة فيها . وقيل يقدم الأخ للأم لأنه أقوى من أب الأم في الميراث . والوجهان في مذهب أحمد .

وفيه وجه ثالث : أنه لا حضانة للأخ من الأم بحال ؛ لأنه ليس من العصبات ، ولا من نساء الحضانة ، وكذلك الخال أيضا ، فإن صاحب هذا الوجه يقول : لا حضانة له ، ولا نزاع أن أبا الأم وأمهاته أولى من الخال ، وإن كانوا من جهتين ، كقرابة الأم وقرابة الأب ، مثل العمة والخالة ، والأخت للأب ، والأخت للأم ، وأم الأب ، وأم الأم ، وخالة الأب ، وخالة الأم قدم من في جهة الأب في ذلك كله على إحدى الروايتين فيه . هذا كله إذا استوت درجتهم ، أو كانت جهة الأب أقرب إلى الطفل ، وأما إذا كانت جهة الأم أقرب ، وقرابة الأب أبعد ، كأم الأم ، وأم أب الأب ، وكخالة الطفل ، وعمة أبيه ، فقد تقابل الترجيحان ، ولكن يقدم الأقرب إلى الطفل لقوة شفقته وحنوه على شفقة الأبعد ، ومن قدم قرابة الأب ، فإنما يقدمها مع مساواة قرابة الأم لها ، فأما إذا كانت أبعد منها قدمت قرابة الأم القريبة ، وإلا لزم من تقديم القرابة البعيدة لوازم باطلة لا يقول بها أحد ، فبهذا الضابط يمكن حصر جميع مسائل هذا الباب وجريها على القياس الشرعي ، واطرادها وموافقتها لأصول الشرع ، فأي مسألة وردت عليك أمكن أخذها من هذا الضابط ، مع كونه مقتضى الدليل ، ومع سلامته من التناقض ومناقضة قياس الأصول ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية