صفحة جزء
فصل

واختلف الناس في سقوط الحضانة بالنكاح على أربعة أقوال .

أحدها : سقوطها به مطلقا سواء كان المحضون ذكرا أو أنثى ، وهذا مذهب الشافعي ، ومالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد في المشهور عنه . قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم ، وقضى به شريح .

والقول الثاني : أنها لا تسقط بالتزويج بحال ، ولا فرق في الحضانة بين الأيم وذوات البعل ، وحكي هذا المذهب عن الحسن البصري ، وهو قول أبي محمد بن حزم .

القول الثالث : أن الطفل إن كان بنتا لم تسقط الحضانة بنكاح أمها ، وإن كان ذكرا سقطت ، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله ، نص عليه في رواية مهنا بن يحيى الشامي ، فقال : إذا تزوجت الأم وابنها صغير ، أخذ منها . قيل له : والجارية مثل الصبي ؟ قال : لا ، الجارية تكون مع أمها إلى سبع سنين . وعلى هذه الرواية : فهل تكون عندها إلى سبع سنين أو إلى أن تبلغ ؟ على روايتين . قال ابن أبي موسى : وعن أحمد أن الأم أحق بحضانة البنت وإن تزوجت إلى أن تبلغ .

[ ص: 407 ]

والقول الرابع : أنها إذا تزوجت بنسيب من الطفل لم تسقط حضانتها ، ثم اختلف أصحاب هذا القول على ثلاثة أقوال ، أحدها : أن المشترط أن يكون الزوج نسيبا للطفل فقط ، وهذا ظاهر قول أصحاب أحمد . الثاني : أنه يشترط أن يكون مع ذلك ذا رحم محرم ، وهو قول أصحاب أبي حنيفة . الثالث : أنه يشترط أن يكون بين الزوج وبين الطفل إيلاد ، بأن يكون جدا للطفل ، وهذا قول مالك ، وبعض أصحاب أحمد ، فهذا تحرير المذاهب في هذه المسألة .

فأما حجة من أسقط الحضانة بالتزويج مطلقا ، فثلاث حجج : إحداها : حديث عمرو بن شعيب المتقدم ذكره . الثانية : اتفاق الصحابة على ذلك ، وقد تقدم قول الصديق لعمر : هي أحق به ما لم تتزوج ، وموافقة عمر له على ذلك ، ولا مخالف لهما من الصحابة البتة ، وقضى به شريح ، والقضاة بعده إلى اليوم في سائر الأعصار والأمصار .

الثالثة : ما رواه عبد الرزاق : حدثنا ابن جريج ، حدثنا أبو الزبير ، عن رجل صالح من أهل المدينة ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، قال : كانت امرأة من الأنصار تحت رجل من الأنصار ، فقتل عنها يوم أحد وله منها ولد ، فخطبها عم ولدها ورجل آخر إلى أبيها ، فأنكح الآخر ، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : أنكحني أبي رجلا لا أريده ، وترك عم ولدي ، فيؤخذ مني ولدي ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أباها ، فقال : أنكحت فلانا فلانة ؟ قال نعم ، قال : " أنت الذي لا نكاح لك ، اذهبي فانكحي عم ولدك " ، فلم ينكر أخذ الولد منها لما تزوجت ، بل أنكحها عم الولد لتبقى لها الحضانة ، ففيه دليل على سقوط الحضانة بالنكاح ، وبقائها إذا تزوجت بنسيب من الطفل . واعترض أبو محمد ابن حزم على هذا الاستدلال بأن حديث عمرو بن شعيب صحيفة ، وحديث أبي سلمة هذا مرسل ، وفيه مجهول . وهذان الاعتراضان ضعيفان ، فقد بينا احتجاج الأئمة بعمرو في [ ص: 408 ] تصحيحهم حديثه ، وإذا تعارض معنا في الاحتجاج برجل قول ابن حزم ، وقول البخاري ، وأحمد ، وابن المديني ، والحميدي ، وإسحاق بن راهويه ، وأمثالهم ، لم يلتفت إلى سواهم .

وأما حديث أبي سلمة هذا ، فإن أبا سلمة من كبار التابعين وقد حكى القصة عن الأنصارية ، ولا ينكر لقاؤه لها ، فلا يتحقق الإرسال ، ولو تحقق فمرسل جيد ، له شواهد مرفوعة وموقوفة ، وليس الاعتماد عليه وحده ، وعنى بالمجهول الرجل الصالح الذي شهد له أبو الزبير بالصلاح ، ولا ريب أن هذه الشهادة لا تعرف به ، ولكن المجهول إذا عدله الراوي عنه الثقة ثبتت عدالته ، وإن كان واحدا على أصح القولين ، فإن التعديل من باب الإخبار والحكم لا من باب الشهادة ، ولا سيما التعديل في الرواية فإنه يكتفى فيه بالواحد ، ولا يزيد على أصل نصاب الرواية ، هذا مع أن أحد القولين : إن مجرد رواية العدل عن غيره تعديل له ، وإن لم يصرح بالتعديل ، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد ، وأما إذا روى عنه وصرح بتعديله ، فقد خرج عن الجهالة التي ترد لأجلها روايته ، لا سيما إذا لم يكن معروفا بالرواية عن الضعفاء والمتهمين ، وأبو الزبير وإن كان فيه تدليس فليس معروفا بالتدليس عن المتهمين والضعفاء ، بل تدليسه من جنس تدليس السلف ، لم يكونوا يدلسون عن متهم ولا مجروح ، وإنما كثر هذا النوع من التدليس في المتأخرين .

واحتج أبو محمد على قوله بما رواه من طريق البخاري ، عن عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس قال : ( قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس له خادم ، فأخذ أبو طلحة بيدي ، وانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن أنسا غلام كيس ، فليخدمك . قال فخدمته في السفر والحضر ) وذكر الخبر .

[ ص: 409 ] قال أبو محمد : فهذا أنس في حضانة أمه ، ولها زوج ، وهو أبو طلحة بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا الاحتجاج في غاية السقوط ، والخبر في غاية الصحة ، فإن أحدا من أقارب أنس لم ينازع أمه فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو طفل صغير ، لم يثغر ، ولم يأكل وحده ، ولم يشرب وحده ، ولم يميز ، وأمه مزوجة ، فحكم به لأمه ، وإنما يتم الاستدلال بهذه المقدمات كلها ، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان لأنس من العمر عشر سنين ، فكان عند أمه ، فلما تزوجت أبا طلحة لم يأت أحد من أقارب أنس ينازعها في ولدها ويقول : قد تزوجت فلا حضانة لك ، وأنا أطلب انتزاعه منك ، ولا ريب أنه لا يحرم على المرأة المزوجة حضانة ابنها إذا اتفقت هي والزوج وأقارب الطفل على ذلك ، ولا ريب أنه لا يجب ، بل لا يجوز أن يفرق بين الأم وولدها إذا تزوجت من غير أن يخاصمها من له الحضانة ، ويطلب انتزاع الولد ، فالاحتجاج بهذه القصة من أبعد الاحتجاج وأبرده .

ونظير هذا أيضا ، احتجاجهم بأن أم سلمة لما تزوجت برسول الله صلى الله عليه وسلم لم تسقط كفالتها لابنها ، بل استمرت على حضانتها ، فيا عجبا من الذي نازع أم سلمة في ولدها ورغب عن أن يكون في حجر النبي صلى الله عليه وسلم .

واحتج لهذا القول أيضا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بابنة حمزة لخالتها وهي مزوجة بجعفر ، فلا ريب أن للناس في قصة ابنة حمزة ثلاث مآخذ . أحدها : أن النكاح لا يسقط الحضانة . الثاني : أن المحضونة إذا كانت بنتا فنكاح أمها لا يسقط حضانتها ، ويسقطها إذا كان ذكرا . الثالث : أن الزوج إذا كان نسيبا من الطفل لم تسقط حضانتها ، وإلا سقطت ، فالاحتجاج بالقصة على أن النكاح لا يسقط الحضانة مطلقا لا يتم إلا بعد إبطال ذينك الاحتمالين الآخرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية