صفحة جزء
قالت الحنابلة : الكلام معكم في مقامين ، أحدهما : استدلالكم بحديث رافع ، والثاني : إلغاؤكم وصف الذكورية في أحاديث التخيير .

فأما الأول ، فالحديث قد ضعفه ابن المنذر وغيره ، وضعف يحيى بن سعيد والثوري عبد الحميد بن جعفر ، وأيضا فقد اختلف فيه على قولين . أحدهما : أن المخير كان بنتا ، وروي أنه كان ابنا . فقال عبد الرزاق : أخبرنا سفيان ، عن عثمان البتي ، عن عبد الحميد بن سلمة ، عن أبيه ، عن جده ( أن أبويه اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أحدهما مسلم والآخر كافر ، فتوجه إلى الكافر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم اهده " فتوجه إلى المسلم فقضى له به ) .

قال أبو الفرج بن الجوزي : ورواية من روى أنه كان غلاما أصح . قالوا : ولو سلم لكم أنه كان أنثى فأنتم لا تقولون به ، فإن فيه أن أحدهما كان مسلما ، [ ص: 421 ] والآخر كافرا ، فكيف تحتجون بما لا تقولون به .

فلو كانا مسلمين ، ففي الحديث أن الطفل كان فطيما ، وهذا قطعا دون السبع ، والظاهر أنه دون الخمس ، وأنتم لا تخيرون من له دون السبع ، فظهر أنه لا يمكنكم الاستدلال بحديث رافع هذا على كل تقدير .

فبقي المقام الثاني ، وهو إلغاء وصف الذكورة في أحاديث التخيير وغيرها ، فنقول : لا ريب أن من الأحكام ما يكفي فيها وصف الذكورة ، أو وصف الأنوثة قطعا ، ومنها ما لا يكفي فيه ، بل يعتبر فيه إما هذا وإما هذا ، فيلغى الوصف في كل حكم تعلق بالنوع الإنساني المشترك بين الأفراد ، ويعتبر وصف الذكورة في كل موضع كان له تأثير فيه ، كالشهادة والميراث ، والولاية في النكاح ، ويعتبر وصف الأنوثة في كل موضع يختص بالإناث أو يقدمن فيه على الذكور ، كالحضانة ، إذا استوى في الدرجة الذكر والأنثى قدمت الأنثى .

بقي النظر فيما نحن فيه من شأن التخيير ، هل لوصف الذكورة تأثير في ذلك فيلحق بالقسم الذي تعتبر فيه ، أو لا تأثير له فيلحق بالقسم الذي يلغى فيه ؟ ولا سبيل إلى جعلها من القسم الملغى فيه وصف الذكورة ؛ لأن التخيير هاهنا تخيير شهوة ، لا تخيير رأي ومصلحة ؛ ولهذا إذا اختار غير من اختاره أولا نقل إليه ، فلو خيرت البنت أفضى ذلك إلى أن تكون عند الأب تارة ، وعند الأم أخرى ، فإنها كلما شاءت الانتقال أجيبت إليه ، وذلك عكس ما شرع للإناث من لزوم البيوت ، وعدم البروز ، ولزوم الخدور وراء الأستار ، فلا يليق بها أن تمكن من خلاف ذلك . وإذا كان هذا الوصف معتبرا قد شهد له الشرع بالاعتبار لم يمكن إلغاؤه .

قالوا : وأيضا فإن ذلك يفضي إلى ألا يبقى الأب موكلا بحفظها ، ولا الأم لتنقلها بينهما ، وقد عرف بالعادة أن ما يتناوب الناس على حفظه ويتواكلون فيه فهو آيل إلى ضياع ، ومن الأمثال السائرة " لا يصلح القدر بين طباخين " .

[ ص: 422 ] قالوا : وأيضا فالعادة شاهدة بأن اختيار أحدهما يضعف رغبة الآخر فيه بالإحسان إليه وصيانته ، فإذا اختار أحدهما ثم انتقل إلى الآخر لم يبق أحدهما تام الرغبة في حفظه والإحسان إليه .

فإن قلتم فهذا بعينه موجود في الصبي ولم يمنع ذلك تخييره . قلنا : صدقتم لكن عارضه كون القلوب مجبولة على حب البنين ، واختيارهم على البنات ، فإذا اجتمع نقص الرغبة ، ونقص الأنوثة ، وكراهة البنات في الغالب - ضاعت الطفلة ، وصارت إلى فساد يعسر تلافيه ، والواقع شاهد بهذا ، والفقه تنزيل المشروع على الواقع ، وسر الفرق أن البنت تحتاج من الحفظ والصيانة فوق ما يحتاج إليه الصبي ؛ ولهذا شرع في حق الإناث من الستر والخفر ما لم يشرع مثله للذكور في اللباس وإرخاء الذيل شبرا أو أكثر ، وجمع نفسها في الركوع والسجود دون التجافي ، ولا ترفع صوتها بقراءة القرآن ، ولا ترمل في الطواف ، ولا تتجرد في الإحرام عن المخيط ، ولا تكشف رأسها ، ولا تسافر وحدها ، هذا كله مع كبرها ومعرفتها ، فكيف إذا كانت في سن الصغر وضعف العقل الذي يقبل فيه الانخداع ؟ ولا ريب أن ترددها بين الأبوين مما يعود على المقصود بالإبطال ، أو يخل به ، أو ينقصه ؛ لأنها لا تستقر في مكان معين ، فكان الأصلح لها أن تجعل عند أحد الأبوين من غير تخيير كما قاله الجمهور : مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق ، فتخييرها ليس منصوصا عليه ، ولا هو في معناه فيلحق به .

التالي السابق


الخدمات العلمية