صفحة جزء
ثم هاهنا حصل الاجتهاد في تعيين أحد الأبوين لمقامها عنده وأيهما أصلح لها ، فمالك وأبو حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه عينوا الأم ، وهو الصحيح دليلا ، وأحمد رحمه الله في المشهور عنه ، واختيار عامة أصحابه عينوا الأب .

قال من رجح الأم : قد جرت العادة بأن الأب يتصرف في المعاش ، [ ص: 423 ] والخروج ، ولقاء الناس ، والأم في خدرها ، مقصورة في بيتها ، فالبنت عندها أصون وأحفظ بلا شك ، وعينها عليها دائما بخلاف الأب ، فإنه في غالب الأوقات غائب عن البنت ، أو في مظنة ذلك ، فجعلها عند أمها أصون لها وأحفظ .

قالوا : وكل مفسدة يعرض وجودها عند الأم فإنها تعرض أو أكثر منها عند الأب ، فإنه إذا تركها في البيت وحدها لم يأمن عليها ، وإن ترك عندها امرأته أو غيرها فالأم أشفق عليها وأصون لها من الأجنبية .

قالوا : وأيضا فهي محتاجة إلى تعلم ما يصلح للنساء من الغزل والقيام بمصالح البيت ، وهذا إنما تقوم به النساء لا الرجال ، فهي أحوج إلى أمها لتعلمها ما يصلح للمرأة ، وفي دفعها إلى أبيها تعطيل هذه المصلحة ، وإسلامها إلى امرأة أجنبية تعلمها ذلك ، وترديدها بين الأم وبينه ، وفي ذلك تمرين لها على البروز والخروج ، فمصلحة البنت والأم والأب أن تكون عند أمها ، وهذا القول هو الذي لا نختار سواه .

قال من رجح الأب : الرجال أغير على البنات من النساء ، فلا تستوي غيرة الرجل على ابنته وغيرة الأم أبدا ، وكم من أم تساعد ابنتها على ما تهواه ، ويحملها على ذلك ضعف عقلها ، وسرعة انخداعها ، وضعف داعي الغيرة في طبعها ، بخلاف الأب ؛ ولهذا المعنى وغيره جعل الشارع تزويجها إلى أبيها دون أمها ، ولم يجعل لأمها ولاية على بضعها البتة ، ولا على مالها ، فكان من محاسن الشريعة أن تكون عند أمها ما دامت محتاجة إلى الحضانة والتربية ، فإذا بلغت حدا تشتهى فيه وتصلح للرجال ، فمن محاسن الشريعة أن تكون عند من هو أغير عليها ، وأحرص على مصلحتها ، وأصون لها من الأم .

قالوا : ونحن نرى في طبيعة الأب وغيره من الرجال من الغيرة ، ولو مع فسقه وفجوره ما يحمله على قتل ابنته وأخته وموليته إذا رأى منها ما يريبه لشدة الغيرة ، ونرى في طبيعة النساء من الانحلال والانخداع ضد ذلك ، قالوا : فهذا هو [ ص: 424 ] الغالب على النوعين ، ولا عبرة بما خرج عن الغالب ، على أنا إذا قدمنا أحد الأبوين فلا بد أن نراعي صيانته وحفظه للطفل ؛ ولهذا قال مالك والليث : إذا لم تكن الأم في موضع حرز وتحصين ، أو كانت غير مرضية ، فللأب أخذ البنت منها ، وكذلك الإمام أحمد رحمه الله في الرواية المشهورة عنه ، فإنه يعتبر قدرته على الحفظ والصيانة . فإن كان مهملا لذلك ، أو عاجزا عنه ، أو غير مرضي ، أو ذا دياثة ، والأم بخلافه - فهي أحق بالبنت بلا ريب ، فمن قدمناه بتخيير أو قرعة أو بنفسه ، فإنما نقدمه إذا حصلت به مصلحة الولد ، ولو كانت الأم أصون من الأب وأغير منه قدمت عليه ، ولا التفات إلى قرعة ولا اختيار الصبي في هذه الحالة ، فإنه ضعيف العقل يؤثر البطالة واللعب ، فإذا اختار من يساعده على ذلك ، لم يلتفت إلى اختياره ، وكان عند من هو أنفع له وأخير ، ولا تحتمل الشريعة غير هذا ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال : ( مروهم بالصلاة لسبع ، واضربوهم على تركها لعشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع ) ، والله تعالى يقول : ( ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ) [ التحريم 6 ] . وقال الحسن : علموهم وأدبوهم وفقهوهم ، فإذا كانت الأم تتركه في المكتب ، وتعلمه القرآن، والصبي يؤثر اللعب ومعاشرة أقرانه ، وأبوه يمكنه من ذلك ، فإنه أحق به بلا تخيير ولا قرعة ، وكذلك العكس ، ومتى أخل أحد الأبوين بأمر الله ورسوله في الصبي وعطله ، والآخر مراع له فهو أحق وأولى به .

وسمعت شيخنا رحمه الله يقول : تنازع أبوان صبيا عند بعض الحكام ، فخيره بينهما ، فاختار أباه ، فقالت له أمه : سله لأي شيء يختار أباه ، فسأله فقال : أمي تبعثني كل يوم للكتاب ، والفقيه يضربني ، وأبي يتركني للعب مع الصبيان ، فقضى به للأم ، قال : أنت أحق به .

قال شيخنا : وإذا ترك أحد الأبوين تعليم الصبي ، وأمره الذي أوجبه الله [ ص: 425 ] عليه ، فهو عاص ، ولا ولاية له عليه ، بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته ، فلا ولاية له ، بل إما أن ترفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب ، وإما أن يضم إليه من يقوم معه بالواجب ؛ إذ المقصود طاعة الله ورسوله بحسب الإمكان . قال شيخنا : وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم والنكاح والولاء ، سواء كان الوارث فاسقا أو صالحا ، بل هذا من جنس الولاية التي لا بد فيها من القدرة على الواجب والعلم به ، وفعله بحسب الإمكان . قال : فلو قدر أن الأب تزوج امرأة لا تراعي مصلحة ابنته ، ولا تقوم بها وأمها أقوم بمصلحتها من تلك الضرة ، فالحضانة هنا للأم قطعا ، قال : ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس عنه نص عام في تقديم أحد الأبوين مطلقا ، ولا تخيير الولد بين الأبوين مطلقا ، والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقا ، بل لا يقدم ذو العدوان والتفريط على البر العادل المحسن ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية