صفحة جزء
فصل وأما المطعن الرابع : وهو معارضة روايتها برواية عمر - رضي الله عنه - فهذه المعارضة تورد من وجهين . أحدهما : قوله لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا ، وأن هذا من حكم المرفوع . الثاني : قوله : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لها السكنى والنفقة ) .

ونحن نقول : قد أعاذ الله أمير المؤمنين من هذا الكلام الباطل الذي لا يصح عنه أبدا . قال الإمام أحمد : لا يصح ذلك عن عمر . وقال أبو الحسن الدارقطني : [ ص: 480 ] بل السنة بيد فاطمة بنت قيس قطعا ، ومن له إلمام بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشهد شهادة الله أنه لم يكن عند عمر - رضي الله عنه - سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة ، وعمر كان أتقى لله وأحرص على تبليغ سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تكون هذه السنة عنده ثم لا يرويها أصلا ولا يبينها ولا يبلغها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وأما حديث حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن عمر - رضي الله عنه - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( لها السكنى والنفقة ) فنحن نشهد بالله شهادة نسأل عنها إذا لقيناه أن هذا كذب على عمر - رضي الله عنه - وكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينبغي أن لا يحمل الإنسان فرط الانتصار للمذاهب والتعصب لها على معارضة سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة الصريحة بالكذب البحت ، فلو يكون هذا عند عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لخرست فاطمة وذووها ولم ينبسوا بكلمة ، ولا دعت فاطمة إلى المناظرة ، ولا احتيج إلى ذكر إخراجها لبذاء لسانها ، ولما فات هذا الحديث أئمة الحديث والمصنفين في السنن والأحكام المنتصرين للسنن فقط لا لمذهب ولا لرجل ، هذا قبل أن نصل به إلى إبراهيم ، ولو قدر وصولنا بالحديث إلى إبراهيم لانقطع نخاعه ؛ فإن إبراهيم لم يولد إلا بعد موت عمر - رضي الله عنه - بسنين ، فإن كان مخبر أخبر به إبراهيم عن عمر - رضي الله عنه - وحسنا به الظن ، كان قد روى له قول عمر - رضي الله عنه - بالمعنى ، وظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي حكم بثبوت النفقة والسكنى للمطلقة ، حتى قال عمر - رضي الله عنه - لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة ، فقد يكون الرجل صالحا ويكون مغفلا ليس تحمل الحديث وحفظه وروايته من شأنه ، وبالله التوفيق .

وقد تناظر في هذه المسألة ميمون بن مهران وسعيد بن المسيب فذكر له ميمون خبر فاطمة فقال سعيد : ( تلك امرأة فتنت الناس ، فقال له ميمون : لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما فتنت الناس ، وإن لنا في [ ص: 481 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة ، مع أنها أحرم الناس عليه ، ليس لها عليه رجعة ولا بينهما ميراث ) . انتهى . ولا يعلم أحد من الفقهاء - رحمهم الله - إلا وقد احتج بحديث فاطمة بنت قيس هذا ، وأخذ به في بعض الأحكام كمالك والشافعي . وجمهور الأمة يحتجون به في سقوط نفقة المبتوتة إذا كانت حائلا ، والشافعي نفسه احتج به على جواز جمع الثلاث ؛ لأن في بعض ألفاظه فطلقني ثلاثا ، وقد بينا أنه إنما طلقها آخر ثلاث كما أخبرت به عن نفسها . واحتج به من يرى جواز نظر المرأة إلى الرجال ، واحتج به الأئمة كلهم على جواز خطبة الرجل على خطبة أخيه إذا لم تكن المرأة قد سكنت إلى الخاطب الأول ، واحتجوا به على جواز بيان ما في الرجل إذا كان على وجه النصيحة لمن استشاره أن يزوجه أو يعامله أو يسافر معه وأن ذلك ليس بغيبة ، واحتجوا به على جواز نكاح القرشية من غير القرشي ، واحتجوا به على وقوع الطلاق في حال غيبة أحد الزوجين عن الآخر وأنه لا يشترط حضوره ومواجهته به ، واحتجوا به على جواز التعريض بخطبة المعتدة البائن ، وكانت هذه الأحكام كلها حاصلة ببركة روايتها وصدق حديثها فاستنبطتها الأمة منها وعملت بها ، فما بال روايتها ترد في حكم واحد من أحكام هذا الحديث وتقبل فيما عداه ؟! فإن كانت حفظته قبلت في جميعه ، وإن لم تكن حفظته وجب أن لا يقبل في شيء من أحكامه ، وبالله التوفيق .

فإن قيل : بقي عليكم شيء واحد وهو أن قوله سبحانه : ( أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ) [ الطلاق : 6 ] إنما هو في البوائن لا في الرجعيات بدليل قوله عقيبه : ( ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ) [ الطلاق : 6 ] فهذا في البائن ؛ إذ لو كانت رجعية لما قيد النفقة عليها بالحمل ولكان عديم التأثير ، فإنها تستحقها حائلا كانت أو حاملا ، والظاهر أن الضمير في ( أسكنوهن ) هو والضمير في قوله ( وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن ) واحد .

فالجواب : أن مورد هذا السؤال إما أن يكون من الموجبين النفقة [ ص: 482 ] والسكنى ، أو ممن يوجب السكنى دون النفقة ، فإن كان الأول : فالآية على زعمه حجة عليه ؛ لأنه سبحانه شرط في إيجاب النفقة عليهن كونهن حوامل ، والحكم المعلق على الشرط ينتفي عند انتفائه فدل على أن البائن الحائل لا نفقة لها .

فإن قيل : فهذه دلالة على المفهوم ولا يقول بها .

قيل : ليس ذلك من دلالة المفهوم ، بل من انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه ، فلو بقي الحكم بعد انتفائه لم يكن شرطا ، وإن كان ممن يوجب السكنى وحدها فيقال له : ليس في الآية ضمير واحد يخص البائن ، بل ضمائرها نوعان : نوع يخص الرجعية قطعا ، كقوله ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ) [ الطلاق : 2 ] ونوع يحتمل أن يكون للبائن وأن يكون للرجعية وأن يكون لهما وهو قوله : ( لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن ) وقوله ( أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ) [ الطلاق : 6 ] فحمله على الرجعية هو المتعين لتتحد الضمائر ومفسرها ، فلو حمل على غيرها لزم اختلاف الضمائر ومفسرها وهو خلاف الأصل والحمل على الأصل أولى .

فإن قيل : فما الفائدة في تخصيص نفقة الرجعية بكونها حاملا ؟

قيل : ليس في الآية ما يقتضي أنه لا نفقة للرجعية الحائل ، بل الرجعية نوعان قد بين الله حكمهما في كتابه : حائل : فلها النفقة بعقد الزوجية إذ حكمها حكم الأزواج ، أو حامل : فلها النفقة بهذه الآية إلى أن تضع حملها ، فتصير النفقة بعد الوضع نفقة قريب لا نفقة زوج ، فيخالف حالها قبل الوضع حالها بعده ، فإن الزوج ينفق عليها وحده إذا كانت حاملا ، فإذا وضعت صارت نفقتها على من تجب عليه نفقة الطفل ، ولا يكون حالها في حال حملها كذلك ، بحيث تجب نفقتها على من تجب عليه نفقة الطفل ، فإنه في حال حملها جزء من أجزائها ، فإذا انفصل كان له حكم آخر ، وانتقلت النفقة من حكم إلى حكم ، فظهرت فائدة التقييد وسر الاشتراط ، والله أعلم بما أراد من كلامه .

التالي السابق


الخدمات العلمية