صفحة جزء
المسلك الثاني : أنه مخصوص بسالم دون من عداه ، وهذا مسلك أم سلمة ومن معها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهن ، وهذا المسلك أقوى مما قبله ، فإن أصحابه قالوا مما يبين اختصاصه بسالم أن فيه : أن سهلة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية الحجاب ، وهي تقتضي أنه لا يحل للمرأة أن تبدي زينتها إلا لمن ذكر في الآية وسمي فيها ، ولا يخص من عموم من عداهم أحد إلا بدليل .

قالوا : والمرأة إذا أرضعت أجنبيا ، فقد أبدت زينتها له ، فلا يجوز ذلك تمسكا بعموم الآية ، فعلمنا أن إبداء سهلة زينتها لسالم خاص به . قالوا : وإذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا من الأمة بأمر ، أو أباح له شيئا أو نهاه عن شيء وليس في الشريعة ما يعارضه ثبت ذلك في حق غيره من الأمة ما لم ينص على تخصيصه ، وأما إذا أمر الناس بأمر ، أو نهاهم عن شيء ، ثم أمر واحدا من الأمة بخلاف ما أمر به الناس ، أو أطلق له ما نهاهم عنه ، فإن ذلك يكون خاصا به وحده ، ولا نقول في هذا الموضع : إن أمره للواحد أمر للجميع ، وإباحته للواحد إباحة للجميع ؛ لأن ذلك يؤدي إلى إسقاط الأمر الأول ، والنهي الأول ، بل نقول : إنه خاص بذلك الواحد لتتفق النصوص وتأتلف ، ولا يعارض بعضها بعضا ، فحرم الله في كتابه أن تبدي المرأة زينتها لغير محرم ، وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهلة أن تبدي زينتها لسالم وهو غير محرم عند إبداء الزينة قطعا ، فيكون ذلك رخصة خاصة بسالم ، مستثناة من عموم التحريم ، ولا نقول : إن حكمها عام ، فيبطل حكم الآية المحرمة .

قالوا : ويتعين هذا المسلك لأنا لو لم نسلكه ، لزمنا أحد مسلكين ، ولا بد منهما إما نسخ هذا الحديث بالأحاديث الدالة على اعتبار الصغر في التحريم ، وإما نسخها به ، ولا سبيل إلى واحد من الأمرين لعدم العلم بالتاريخ ، ولعدم تحقق المعارضة ، ولإمكان العمل بالأحاديث كلها ، فإنا إذا حملنا حديث سهلة على الرخصة الخاصة ، والأحاديث الأخر على عمومها فيما عدا سالما ، لم تتعارض ، ولم ينسخ بعضها بعضا ، وعمل بجميعها .

[ ص: 523 ] قالوا : وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن الرضاع إنما يكون في الحولين ، وأنه إنما يكون في الثدي ، وإنما يكون قبل الفطام ، كان ذلك ما يدل على أن حديث سهلة على الخصوص ، سواء تقدم أو تأخر ، فلا ينحصر بيان الخصوص في قوله هذا لك وحدك حتى يتعين طريقا .

قالوا : وأما تفسير حديث إنما الرضاعة من المجاعة بما ذكرتموه ، ففي غاية البعد من اللفظ ، ولا تتبادر إليه أفهام المخاطبين ، بل القول في معناه ما قاله أبو عبيد والناس ، قال أبو عبيد : قوله : إنما الرضاعة من المجاعة يقول : إن الذي إذا جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن ، إنما هو الصبي الرضيع .

فأما الذي شبعه من جوعه الطعام ، فإن رضاعه ليس برضاع ، ومعنى الحديث : إنما الرضاع في الحولين قبل الفطام ، هذا تفسير أبي عبيد والناس ، وهو الذي يتبادر فهمه من الحديث إلى الأذهان ، حتى لو احتمل الحديث التفسيرين على السواء ، لكان هذا المعنى أولى به لمساعدة سائر الأحاديث لهذا المعنى ، وكشفها له ، وإيضاحها ، ومما يبين أن غير هذا التفسير خطأ ، وأنه لا يصح أن يراد به رضاعة الكبير ، أن لفظة " المجاعة " إنما تدل على رضاعة الصغير ، فهي تثبت رضاعة المجاعة ، وتنفي غيرها ، ومعلوم يقينا أنه إنما أراد مجاعة اللبن لا مجاعة الخبز واللحم ، فهذا لا يخطر ببال المتكلم ولا السامع ، فلو جعلنا حكم الرضاعة عاما لم يبق لنا ما ينفي ويثبت .

وسياق قوله : لما رأى الرجل الكبير ، فقال : إنما الرضاعة من المجاعة ، يبين المراد ، وأنه إنما يحرم رضاعة من يجوع إلى لبن المرأة ، والسياق ينزل اللفظ منزلة الصريح ، فتغير وجهه الكريم صلوات الله وسلامه عليه وكراهته لذلك الرجل ، وقوله : انظرن من إخوانكن إنما هو للتحفظ في الرضاعة ، وأنها لا تحرم كل وقت ، وإنما تحرم وقتا دون وقت ، ولا يفهم أحد من هذا أنما الرضاعة ما كان عددها خمسا فيعبر عن هذا المعنى بقوله من المجاعة ، وهذا ضد البيان الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم .

وقولكم : إن الرضاعة تطرد الجوع عن الكبير ، كما تطرد الجوع عن الصغير [ ص: 524 ] كلام باطل ، فإنه لا يعهد ذو لحية قط يشبعه رضاع المرأة ويطرد عنه الجوع ، بخلاف الصغير فإنه ليس له ما يقوم مقام اللبن ، فهو يطرد عنه الجوع ، فالكبير ليس ذا مجاعة إلى اللبن أصلا ، والذي يوضح هذا أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد حقيقة المجاعة ، وإنما أراد مظنتها وزمنها ، ولا شك أنه الصغر ، فإن أبيتم إلا الظاهرية ، وأنه أراد حقيقتها ، لزمكم أن لا يحرم رضاع الكبير إلا إذا ارتضع وهو جائع ، فلو ارتضع وهو شبعان لم يؤثر شيئا .

وأما حديث الستر المصون ، والحرمة العظيمة ، والحمى المنيع ، فرضي الله عن أم المؤمنين ، فإنها وإن رأت أن هذا الرضاع يثبت المحرمية ، فسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخالفنها في ذلك ، ولا يرين دخول هذا الستر المصون ، والحمى الرفيع بهذه الرضاعة ، فهي مسألة اجتهاد ، وأحد الحزبين مأجور أجرا واحدا ، والآخر مأجور أجرين ، وأسعدهما بالأجرين من أصاب حكم الله ورسوله في هذه الواقعة ، فكل من المدخل للستر المصون بهذه الرضاعة ، والمانع من الدخول فائز بالأجر ، مجتهد في مرضاة الله وطاعة رسوله ، وتنفيذ حكمه ، ولهما أسوة بالنبيين الكريمين - داود وسليمان اللذين أثنى الله عليهما بالحكمة والحكم ، وخص بفهم الحكومة أحدهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية