صفحة جزء
قولكم : لم يجئ في لسان الشارع للحيض قلنا : قد بينا مجيئه في كلامه للحيض ، بل لم يجئ في كلامه للطهر البتة في موضع واحد ، وقد تقدم أن سفيان بن عيينة روى عن أيوب عن سليمان بن يسار عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة ( تدع الصلاة أيام أقرائها )

قولكم : إن الشافعي قال : ما حدث بهذا سفيان قط ، جوابه أن الشافعي لم يسمع سفيان يحدث به ، فقال بموجب ما سمعه من سفيان ، أو عنه من قوله ( لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر ) وقد سمعه من سفيان من لا يستراب بحفظه وصدقه وعدالته . وثبت في السنن من حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه الدم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما ذلك عرق ، فانظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلي ، وإذا مر [ ص: 573 ] قرؤك فتطهري ، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء ) رواه أبو داود بإسناد صحيح ، فذكر فيه لفظ القرء أربع مرات ، في كل ذلك يريد به الحيض لا الطهر ، وكذلك إسناد الذي قبله ، وقد صححه جماعة من الحفاظ .

وأما حديث سفيان الذي قال فيه : ( لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر ) فلا تعارض بينه وبين اللفظ الذي احتججنا به بوجه ما حتى يطلب ترجيح أحدهما على الآخر ، بل أحد اللفظين يجري من الآخر مجرى التفسير والبيان ، وهذا يدل على أن القرء اسم لتلك الليالي والأيام ، فإنه إن كانا جميعا لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الظاهر - فظاهر ، وإن كان قد روي بالمعنى فلولا أن معنى أحد اللفظين معنى الآخر لغة وشرعا ، لم يحل للراوي أن يبدل لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يقوم مقامه ، ولا يسوغ له أن يبدل اللفظ بما يوافق مذهبه ، ولا يكون مرادفا للفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا سيما والراوي لذلك من لا يدفع عن الإمامة والصدق والورع وهو أيوب السختياني ، وهو أجل من نافع وأعلم .

وقد روى عثمان بن سعد الكاتب ، حدثنا ابن أبي مليكة قال : جاءت خالتي فاطمة بنت أبي حبيش إلى عائشة رضي الله عنها فقالت : إني أخاف أن أقع في النار ، أدع الصلاة السنة والسنتين ، قالت : انتظري حتى يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء فقالت عائشة رضي الله عنها : هذه فاطمة تقول كذا وكذا قال : ( قولي لها فلتدع الصلاة في كل شهر أيام قرئها ) قال الحاكم : هذا حديث صحيح وعثمان بن سعد الكاتب بصري ثقة عزيز الحديث ، يجمع حديثه ، قال البيهقي : وتكلم فيه غير واحد . وفيه : أنه تابعه الحجاج بن أرطاة [ ص: 574 ] عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها .

وفي " المسند " : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة : ( إذا أقبلت أيام أقرائك فأمسكي عليك ) الحديث .

وفي " سنن أبي داود " من حديث عدي بن ثابت ، عن أبيه ، عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة ( تدع الصلاة أيام أقرائها ، ثم تغتسل وتصلي ) .

وفي " سننه " أيضا : أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه الدم ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما ذلك عرق ، فانظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلي ، فإذا مر قرؤك فتطهري ، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء ) وقد تقدم .

قال أبو داود : وروى قتادة ، عن عروة ، عن زينب ، عن أم سلمة رضي الله عنها ( أن أم حبيبة بنت جحش رضي الله عنها استحيضت ، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدع الصلاة أيام أقرائها )

وتعليل هذه الأحاديث ، بأن هذا من تغيير الرواة رووه بالمعنى لا يلتفت إليه ، ولا يعرج عليه ، فلو كانت من جانب من عللها ، لأعاد ذكرها ، وأبداه وشنع على من خالفها . وأما قولكم : إن الله سبحانه وتعالى جعل اليأس من الحيض شرطا في الاعتداد بالأشهر ، فمن أين يلزم أن تكون القروء هي الحيض ؟ قلنا : لأنه جعل الأشهر الثلاثة بدلا عن الأقراء الثلاثة ، وقال : ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ) [ الطلاق 4 ] فنقلهن إلى الأشهر عند تعذر مبدلهن وهو الحيض ، [ ص: 575 ] فدل على أن الأشهر بدل عن الحيض الذي يئسن منه ، لا عن الطهر ، وهذا واضح .

التالي السابق


الخدمات العلمية