صفحة جزء
وأما الشافعي رحمه الله فلا نص له في تقدير الإياس بمدة ، وله قولان بعد . أحدهما : أنه يعرف بيأس أقاربها . والثاني : أنه يعتبر بيأس جميع النساء ، فعلى القول الأول هل المعتبر جميع أقاربها ، أو نساء عصباتها ، أو نساء بلدها خاصة ؟ فيه ثلاثة أوجه ، ثم إذا قيل : يعتبر بالأقارب فاختلفت عادتهن فهل يعتبر بأقل عادة منهن ، أو بأكثرهن عادة ، أو بأقصر امرأة في العالم عادة ؟ على [ ص: 584 ]

ثلاثة أوجه

والقول الثاني للشافعي رحمه الله أن المعتبر جميع النساء . ، ثم اختلف أصحابه هل لذلك حد أم لا ؟ على وجهين

أحدهما : ليس له حد ، وهو ظاهر نصه .

والثاني : له حد ، ثم اختلفوا فيه على وجهين

أحدهما : أنه ستون سنة قاله أبو العباس بن القاص ، والشيخ أبو حامد .

والثاني : اثنان وستون سنة قاله الشيخ أبو إسحاق في "" المهذب "" ، وابن الصباغ في "" الشامل "" .

وأما أصحاب مالك رحمه الله فلم يحدوا سن الإياس بحد البتة .

وقال آخرون منهم شيخ الإسلام ابن تيمية : اليأس يختلف باختلاف النساء وليس له حد يتفق فيه النساء . والمراد بالآية أن يأس كل امرأة من نفسها ؛ لأن اليأس ضد الرجاء ، فإذا كانت المرأة قد يئست من الحيض ولم ترجه فهي آيسة وإن كان لها أربعون أو نحوها ، وغيرها لا تيأس منه وإن كان لها خمسون .

وقد ذكر الزبير بن بكار : أن بعضهم قال : لا تلد لخمسين سنة إلا عربية ، ولا تلد لستين سنة إلا قرشية . ، وقال : إن هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن ربيعة ولدت موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ولها ستون سنة .

وقد صح ( ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة طلقت فحاضت حيضة ، أو حيضتين ، ثم يرتفع حيضها لا تدري ما رفعه ، أنها تتربص تسعة أشهر فإن استبان بها حمل وإلا اعتدت ثلاثة أشهر ) وقد وافقه الأكثرون على هذا منهم مالك ، وأحمد ، والشافعي في القديم . قالوا : تتربص غالب مدة الحمل ، ثم تعتد عدة الآيسة ، ثم تحل للأزواج ولو كانت بنت ثلاثين سنة ، أو أربعين ، وهذا يقتضي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن وافقه من السلف والخلف تكون المرأة آيسة عندهم قبل الخمسين وقبل الأربعين ، وأن اليأس عندهم ليس وقتا محدودا للنساء ، بل مثل هذه تكون آيسة وإن كانت بنت ثلاثين ، وغيرها لا تكون آيسة وإن بلغت خمسين . وإذا كانوا فيمن ارتفع حيضها ، ولا تدري ما رفعه جعلوها آيسة بعد تسعة أشهر فالتي تدري ما رفعه إما بدواء يعلم أنه لا [ ص: 585 ] يعود معه ، وإما بعادة مستقرة لها من أهلها وأقاربها أولى أن تكون آيسة . وإن لم تبلغ الخمسين ، وهذا بخلاف ما إذا ارتفع لمرض ، أو رضاع ، أو حمل ، فإن هذه ليست آيسة ، فإن ذلك يزول .

فالمراتب ثلاثة . أحدها : أن ترتفع ليأس معلوم متيقن ، بأن تنقطع عاما بعد عام ويتكرر انقطاعه أعواما متتابعة ، ثم يطلق بعد ذلك ، فهذه تتربص ثلاثة أشهر بنص القرآن سواء كانت بنت أربعين ، أو أقل ، أو أكثر ، وهي أولى بالتربص بثلاثة أشهر من التي حكم فيها الصحابة والجمهور بتربصها تسعة أشهر ، ثم ثلاثة ، فإن تلك كانت تحيض وطلقت وهي حائض ، ثم ارتفع حيضها بعد طلاقها لا تدري ما رفعه ، فإذا حكم فيها بحكم الآيسات بعد انقضاء غالب مدة الحمل فكيف بهذه ؟ ، ولهذا قال القاضي إسماعيل في " أحكام القرآن " : إذا كان الله سبحانه قد ذكر اليأس مع الريبة فقال تعالى : ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر ) [ الطلاق 4 ] ، ثم جاء ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لفظ موافق لظاهر القرآن لأنه قال ( أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة ، أو حيضتين ، ثم ارتفعت حيضتها لا تدري ما رفعها فإنها تنتظر تسعة أشهر ، ثم تعتد ثلاثة أشهر ) .

فلما كانت لا تدري ما الذي رفع الحيضة كان موضع الارتياب فحكم فيها بهذا الحكم ، وكان اتباع ذلك ألزم وأولى من قول من يقول إن الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين فيرتفع حيضها وهي شابة أنها تبقى ثلاثين سنة معتدة وإن جاءت بولد لأكثر من سنتين لم يلزمه ، فخالف ما كان من إجماع المسلمين الذي مضوا لأنهم كانوا مجمعين على أن الولد يلحق بالأب ما دامت المرأة في عدتها ، فكيف يجوز أن يقول قائل إن الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ويكون بينها وبين زوجها أحكام الزوجات ما دامت في عدتها من الموارثة وغيرها ؟ فإن جاءت بولد لم يلحقه ، وظاهر عدة الطلاق أنها جعلت من الدخول الذي يكون منه الولد فكيف تكون المرأة معتدة والولد لا يلزم ؟

قلت : هذا إلزام منه لأبي حنيفة ، فإن عنده أقصر مدة الحمل سنتان [ ص: 586 ] والمرتابة في أثناء عدتها لا تزال في عدة حتى تبلغ سن الإياس فتعتد به ، وهو يلزم الشافعي في قوله الجديد سواء ، إلا أن مدة الحمل عنده أربع سنين . فإذا جاءت به بعدها لم يلحقه وهي في عدتها منه .

قال القاضي إسماعيل : واليأس يكون بعضه أكثر من بعض وكذلك القنوط وكذلك الرجاء وكذلك الظن ، ومثل هذا يتسع الكلام فيه ، فإذا قيل منه شيء أنزل على قدر ما يظهر من المعنى فيه ، فمن ذلك أن الإنسان يقول قد يئست من مريضي إذا كان الأغلب عنده أنه لا يبرأ ، ويئست من غائبي إذا كان الأغلب عنده أنه لا يقدم ، ولو قال إذا مات غائبه أو مات مريضه قد يئست منه لكان الكلام عند الناس على غير وجهه إلا أن يتبين معنى ما قصد له في كلامه ، مثل أن يقول كنت وجلا في مرضه مخافة أن يموت فلما مات وقع اليأس فينصرف الكلام على هذا وما أشبهه .

إلا أن أكثر ما يلفظ باليأس إنما يكون فيما هو الأغلب عند اليأس أنه لا يكون ، وليس واحد من اليائس والطامع يعلم يقينا أن ذلك الشيء يكون ، أو لا يكون ، وقال الله تعالى : ( والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة ) [ النور 60 ] والرجاء ضد اليأس ، والقاعدة من النساء قد يمكن أن تزوج ، غير أن الأغلب عند الناس فيها أن الأزواج لا يرغبون فيها . ، وقال الله تعالى : ( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ) [ الشورى : 28 ] والقنوط شبه اليأس ، وليس يعلمون يقينا أن المطر لا يكون ، ولكن اليأس دخلهم حين تطاول إبطاؤه . ، وقال الله تعالى : ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا ) [ يوسف 110 ] فلما ذكر أن الرسل هم الذين استيأسوا كان فيه دليل على أنهم دخل قلوبهم يأس من غير يقين استيقنوه ؛ لأن اليقين في ذلك إنما يأتيهم من عند الله كما قال في قصة نوح ( وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ) [ هود : 36 ] ، وقال الله تعالى في قصة إخوة يوسف ( فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا ) [ يوسف 80 ] فدل الظاهر على أن يأسهم ليس بيقين ، وقد حدثنا ابن أبي أويس حدثنا مالك ، [ ص: 587 ] عن هشام بن عروة ، عن أبيه أن ( عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول في خطبته : تعلمن أيها الناس أن الطمع فقر وأن اليأس غنى وأن المرء إذا يئس من شيء استغنى عنه ) فجعل عمر اليأس بإزاء الطمع ، وسمعت أحمد بن المعدل ينشد شعرا لرجل من القدماء يصف ناقة


صفراء من تلد بني العباس صيرتها كالظبي في الكناس     تدر أن تسمع بالإبساس
فالنفس بين طمع وياس

فجعل الطمع بإزاء اليأس .

وحدثنا سليمان بن حرب حدثنا جرير بن حازم ، عن الأعمش ، عن سلام بن شرحبيل قال سمع ( حبة بن خالد وسواء بن خالد أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم قالا : علمنا شيئا ، ثم قال " لا تيأسا من الخير ما تهزهزت رءوسكما ، فإن كل عبد يولد أحمر ليس عليه قشرة ، ثم يرزقه الله ويعطيه )

وحدثنا علي بن عبد الله حدثنا ابن عيينة قال قال هشام بن عبد الملك لأبي حازم يا أبا حازم ما مالك . قال خير مال ثقتي بالله ويأسي مما في أيدي الناس . قال : وهذا أكثر من أن يحصى انتهى .

قال شيخنا : وليس للنساء في ذلك عادة مستمرة بل فيهن من لا تحيض وإن بلغت وفيهن من تحيض حيضا يسيرا يتباعد ما بين أقرائها حتى تحيض في السنة مرة ، ولهذا اتفق العلماء على أن أكثر الطهر بين الحيضتين لا حد له ، وغالب النساء يحضن كل شهر مرة ويحضن ربع الشهر ويكون طهرهن ثلاثة أرباعه . ومنهن من تطهر الشهور المتعددة لقلة رطوبتها ومنهن من يسرع إليها الجفاف [ ص: 588 ] فينقطع حيضها وتيأس منه وإن كان لها دون الخمسين بل والأربعين . ومنهن من لا يسرع إليها الجفاف فتجاوز الخمسين وهي تحيض . قال وليس في الكتاب ولا السنة تحديد اليأس بوقت ، ولو كان المراد بالآيسة من المحيض من لها خمسون سنة ، أو ستون سنة ، أو غير ذلك لقيل : واللائي يبلغن من السن كذا وكذا ولم يقل يئسن .

وأيضا ، فقد ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم جعلوا من ارتفع حيضها قبل ذلك يائسة كما تقدم . والوجود مختلف في وقت يأسهن غير متفق ، وأيضا فإنه سبحانه قال واللائي يئسن ولو كان له وقت محدود لكانت المرأة وغيرها سواء في معرفة يأسهن ، وهو سبحانه قد خص النساء بأنهن اللائي يئسن كما خصهن بقوله واللائي لم يحضن فالتي تحيض هي التي تيأس ، وهذا بخلاف الارتياب فإنه سبحانه قال إن ارتبتم ولم يقل إن ارتبن ، أي إن ارتبتم في حكمهن وشككتم فيه فهو هذا لا ، هذا الذي عليه جماعة أهل التفسير ، كما روى ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث جرير وموسى بن أعين واللفظ له ، عن مطرف بن طريف ، عن عمرو بن سالم ، عن أبي بن كعب قال : ( قلت : يا رسول الله إن ناسا بالمدينة يقولون في عدد النساء ما لم يذكر الله في القرآن الصغار والكبار وأولات الأحمال فأنزل الله سبحانه في هذه السورة ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) ) [ الطلاق 4 ]

فأجل إحداهن أن تضع حملها ، فإذا وضعت فقد قضت عدتها . ولفظ جرير : قلت يا رسول الله إن ناسا من أهل المدينة لما نزلت هذه الآية التي في البقرة في عدة النساء قالوا : لقد بقي من عدد النساء عدد لم يذكرن في القرآن الصغار والكبار التي قد انقطع عنها الحيض وذوات الحمل ، قال : فأنزلت التي في النساء القصرى ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم ) [ ص: 589 ] [ الطلاق 4 ] ثم روي ( عن سعيد بن جبير في قوله : ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ) يعني الآيسة العجوز التي لا تحيض ، أو المرأة التي قعدت عن الحيضة فليست هذه من القروء في شيء ) .

وفي قوله : إن ارتبتم في الآية يعني إن شككتم فعدتهن ثلاثة أشهر ، وعن مجاهد : إن ارتبتم لم تعلموا عدة التي قعدت عن الحيض ، أو التي لم تحض ( فعدتهن ثلاثة أشهر ) . فقوله تعالى : ( إن ارتبتم ) يعني : إن سألتم عن حكمهن ولم تعلموا حكمهن وشككتم فيه ، فقد بيناه لكم فهو بيان لنعمته على من طلب عليه ذلك ليزول ما عنده من الشك والريب بخلاف المعرض عن طلب العلم . وأيضا ، فإن النساء لا يستوين في ابتداء الحيض ، بل منهن من تحيض لعشر ، أو اثنتي عشرة ، أو خمس عشرة ، أو أكثر من ذلك ، فكذلك لا يستوين في آخر سن الحيض الذي هو سن اليأس ، والوجود شاهد بذلك . وأيضا فإنهم تنازعوا فيمن بلغت ولم تحض هل تعتد بثلاثة أشهر أو بالحول كالتي ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه ؟ وفيه روايتان عن أحمد .

قلت : والجمهور على أنها تعتد بثلاثة أشهر ولم يجعلوا للصغر الموجب للاعتداد بها حدا ، فكذلك يجب أن لا يكون للكبر الموجب للاعتداد بالشهور حد ، وهو ظاهر ولله الحمد .

التالي السابق


الخدمات العلمية