صفحة جزء
ومن محاسن مذهب الإمام أحمد ، أن حرم نكاحها بالكلية حتى تتوب ، ويرتفع عنها اسم الزانية والبغي والفاجرة ، فهو - رحمه الله - لا يجوز أن يكون الرجل زوج بغي ، ومنازعوه يجوزون ذلك ، وهو أسعد منهم في هذه المسألة بالأدلة كلها من النصوص والآثار ، والمعاني والقياس ، والمصلحة والحكمة ، وتحريم ما رآه المسلمون قبيحا .

والناس إذا بالغوا في سب الرجل صرحوا له بالزاي والقاف ، فكيف تجوز الشريعة مثل هذا ، مع ما فيه من تعرضه لإفساد فراشه ، وتعليق أولاد عليه من غيره ، وتعرضه للاسم المذموم عند جميع الأمم ؟ وقياس قول من جوز العقد على الزانية ووطئها قبل استبرائها حتى لو كانت حاملا ، أن لا يوجب استبراء الأمة إذا كانت حاملا من الزنى ، بل يطؤها عقيب ملكها ، وهو مخالف لصريح السنة .

فإن أوجب استبراءها ، نقض قوله بجواز وطء الزانية قبل استبرائها ، وإن لم يوجب استبراءها ، خالف النصوص ، ولا ينفعه الفرق بينهما ، بأن الزوج لا استبراء عليه ، بخلاف السيد فإن الزوج إنما لم يجب عليه الاستبراء ؛ لأنه لم يعقد على معتدة ، ولا حامل من غيره بخلاف السيد ، ثم إن الشارع إنما حرم الوطء ، بل [ ص: 647 ] العقد في العدة خشية إمكان الحمل ، فيكون واطئا حاملا من غيره ، وساقيا ماءه لزرع غيره مع احتمال أن لا يكون كذلك ، فكيف إذا تحقق حملها .

وغاية ما يقال : إن ولد الزانية ليس لاحقا بالواطئ الأول ، فإن الولد للفراش ، وهذا لا يجوز إقدامه على خلط مائه ونسبه بغيره ، وإن لم يلحق بالواطئ الأول ، فصيانة مائه ونسبه عن نسب لا يلحق بواضعه لصيانته عن نسب يلحق به .

والمقصود : أن الشرع حرم وطء الأمة الحامل حتى تضع ، سواء كان حملها محرما أو غير محرم وقد فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الرجل والمرأة التي تزوج بها ، فوجدها حبلى ، وجلدها الحد ، وقضى لها بالصداق ، وهذا صريح في بطلان العقد على الحامل من الزنى . ( وصح عنه أنه مر بامرأة مجح على باب فسطاط فقال : ( لعل سيدها يريد أن يلم بها ) ؟ قالوا : نعم . قال : ( لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره ، كيف يستخدمه وهو لا يحل له ، كيف يورثه وهو لا يحل له ؟ ) .

فجعل سبب همه بلعنته وطأه للأمة الحامل ، ولم يستفصل عن حملها ، هل هو لاحق بالواطئ أم غير لاحق به ؟ وقوله : ( كيف يستخدمه وهو لا يحل له ) أي : كيف يجعله عبدا له يستخدمه ، وذلك لا يحل ، فإن ماء هذا الواطئ يزيد في خلق الحمل ، فيكون بعضه منه ، قال الإمام أحمد يزيد وطؤه في سمعه وبصره .

وقوله : ( كيف يورثه وهو لا يحل له ) ، سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول فيه : أي كيف يجعله تركة موروثة عنه ، فإنه يعتقده عبده ، فيجعله تركة تورث عنه ، ولا يحل له ذلك ؛ لأن ماءه زاد في خلقه ، ففيه جزء منه .

وقال غيره : المعنى : كيف يورثه على أنه ابنه ، ولا يحل له ذلك ؛ لأن [ ص: 648 ] الحمل من غيره ، وهو بوطئه يريد أن يجعله منه ، فيورثه ماله ، وهذا يرده أول الحديث ، وهو قوله : ( كيف يستعبده ) ؟ أي : كيف يجعله عبده ؟ وهذا إنما يدل على المعنى الأول .

وعلى القولين ، فهو صريح في تحريم وطء الحامل من غيره ، سواء كان الحمل من زنى أو من غيره ، وأن فاعل ذلك جدير باللعن ، بل قد صرح جماعة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم : بأن الرجل إذا ملك زوجته الأمة لم يطأها حتى يستبرئها خشية أن تكون حاملا منه في صلب النكاح ، فيكون على ولده الولاء لموالي أمه بخلاف ما علقت به في ملكه ، فإنه لا ولاء عليه ، وهذا كله احتياط لولده : هل هو صريح الحرية لا ولاء عليه ، أو عليه ولاء ؟ فكيف إذا كانت حاملا من غيره ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية