فصل 
فإن قيل : قد دلت السنة على استبراء الحامل بوضع الحمل ، وعلى استبراء الحائل بحيضة فكيف سكتت عن 
استبراء الآيسة والتي لم تحض ولم تسكت عنهما في العدة ؟  
[ ص: 658 ] قيل : لم تسكت عنهما بحمد الله ، بل بينتهما بطريق الإيماء والتنبيه ، فإن الله - سبحانه - جعل عدة الحرة ثلاثة قروء ، ثم جعل عدة الآيسة والتي لم تحض ثلاثة أشهر ، فعلم أنه - سبحانه - جعل في مقابلة كل قرء شهرا . ولهذا أجرى سبحانه عادته الغالبة في إمائه ، أن المرأة تحيض في كل شهر حيضة ، وبينت السنة أن استبراء الأمة الحائض بحيضة ، فيكون الشهر قائما مقام الحيضة ، وهذا إحدى الروايات عن 
أحمد  ، وأحد قولي 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي   . 
وعن 
أحمد  رواية ثانية : أنها تستبرأ بثلاثة أشهر ، وهي المشهورة عنه ، وهو أحد قولي 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي   . ووجه هذا ، القول ما احتج به 
أحمد  في رواية 
 nindex.php?page=showalam&ids=16917أحمد بن القاسم  ، فإنه قال : قلت 
لأبي عبد الله   : كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان حيضة ، وإنما جعل الله - سبحانه - في القرآن مكان كل حيضة شهرا ؟ 
فقال 
أحمد   : إنما قلنا : ثلاثة أشهر من أجل الحمل ، فإنه لا يتبين في أقل من ذلك ، فإن 
 nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز  سأل عن ذلك ، وجمع أهل العلم والقوابل ، فأخبروا أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر ، فأعجبه ذلك ، ثم قال : ألا تسمع قول 
 nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود   : إن النطفة تكون أربعين يوما علقة ، ثم أربعين يوما مضغة بعد ذلك ، فإذا خرجت الثمانون ، صارت بعدها مضغة ، وهي لحم فيتبين حينئذ  . 
قال 
ابن القاسم   : قال لي : هذا معروف عند النساء . فأما شهر ، فلا معنى فيه ، انتهى كلامه . 
وعنه رواية ثالثة أنها : تستبرأ بشهر ونصف ، فإنه قال في رواية 
حنبل   : قال 
عطاء   : إن كانت لا تحيض ، فخمسة وأربعون ليلة . قال 
حنبل   : قال عمي : لذلك أذهب ؛ لأن عدة المطلقة الآيسة كذلك ، انتهى كلامه . 
ووجه هذا القول : أنها لو طلقت وهي آيسة ، اعتدت بشهر ونصف في رواية ، فلأن تستبرأ الأمة بهذا القدر أولى . 
وعن 
أحمد  رواية رابعة : أنها تستبرأ بشهرين ، حكاها القاضي عنه ،  
[ ص: 659 ] واستشكلها كثير من أصحابه ، حتى قال صاحب ( المغني ) : ولم أر لذلك وجها . 
قال ولو كان استبراؤها بشهرين ، لكان استبراء ذات القروء بقرءين ، ولم نعلم به قائلا . 
ووجه هذه الرواية ، أنها اعتبرت بالمطلقة ، ولو طلقت وهي أمة ، لكانت عدتها شهرين ، هذا هو المشهور عن 
أحمد   - رحمه الله - واحتج فيه بقول 
عمر   - رضي الله عنه - وهو الصواب ؛ لأن الأشهر قائمة مقام القروء وعدة ذات القروء قرءان ، فبدلهما شهران ، وإنما صرنا إلى استبراء ذات القرء بحيضة ؛ لأنها علم ظاهر على براءتها من الحمل ، ولا يحصل ذلك بشهر واحد ، فلا بد من مدة تظهر فيها براءتها ، وهي إما شهران أو ثلاثة ، فكانت الشهران أولى ؛ لأنها جعلت علما على البراءة في حق المطلقة ، ففي حق المستبرأة أولى ، فهذا وجه هذه الرواية . 
وبعد ، فالراجح من الدليل : الاكتفاء بشهر واحد ، وهو الذي دل عليه إيماء النص وتنبيهه ، وفي جعل مدة استبرائها ثلاثة أشهر تسوية بينها وبين الحرة ، وجعلها بشهرين تسوية بينها وبين المطلقة ، فكان أولى المدد بها شهرا ؛ فإنه البدل التام ، والشارع قد اعتبر نظير هذا البدل في نظير الأمة ، وهي الحرة ، واعتبره الصحابة في 
الأمة المطلقة ، فصح عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب   - رضي الله عنه - أنه قال : عدتها حيضتان ، فإن لم تكن تحيض فشهران ، احتج به 
أحمد   - رحمه الله - . وقد نص 
أحمد   - رحمه الله - في أشهر الروايات عنه على أنها إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه ، اعتدت بعشرة أشهر ، تسعة للحمل وشهر مكان الحيضة . 
وعنه رواية ثانية : تعتد بسنة ، هذه طريقة الشيخ 
أبي محمد  ، قال : 
وأحمد  هاهنا جعل مكان الحيضة شهرا ؛ لأن اعتبار تكرارها في الآيسة لتعلم براءتها من الحمل ، وقد علم براءتها منه هاهنا بمضي غالب مدته ، فجعل الشهر مكان الحيضة على وفق القياس ، وهذا هو الذي ذكره 
الخرقي  مفرقا بين الآيسة ، وبين من ارتفع حيضها ، فقال : فإن كانت آيسة ، فبثلاثة أشهر ، وإن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه ، اعتدت بتسعة أشهر للحمل ، وشهر مكان الحيضة .  
[ ص: 660 ] وأما 
الشيخ أبو البركات  ، فجعل الخلاف في الذي ارتفع حيضها ، كالخلاف في الآيسة ، وجعل فيها الروايات الأربع بعد غالب مدة الحمل تسوية بينها وبين الآيسة ، فقال في ( محرره ) : والآيسة ، والصغيرة بمضي شهر . وعنه : بمضي ثلاثة أشهر . وعنه : شهرين ، وعنه : شهر ونصف . وإن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه ، فبذلك بعد تسعة أشهر . 
وطريقة 
الخرقي  ، 
والشيخ أبي محمد  أصح ، وهذا الذي اخترناه من الاكتفاء بشهر ، هو الذي مال إليه الشيخ في ( المغني ) فإنه قال : ووجه استبرائها بشهر ، أن الله جعل الشهر مكان الحيضة ، ولذلك اختلفت الشهور باختلاف الحيضات ، فكانت 
عدة الحرة الآيسة ثلاثة أشهر مكان الثلاثة قروء ، 
وعدة الأمة شهرين مكان القرءين ، وللأمة المستبرأة التي ارتفع حيضها عشرة أشهر ، تسعة للحمل ، وشهر مكان الحيضة ، فيجب أن يكون مكان الحيضة هنا شهر ، كما في حق من ارتفع حيضها . 
قال : فإن قيل : فقد وجدتم ما دل على البراءة وهو تربص تسعة أشهر . 
قلنا : وهاهنا ما يدل على البراءة وهو الإياس ، فاستويا .