صفحة جزء
وقد نص أحمد في رواية أبي النضر ، فيمن حمل خمرا ، أو خنزيرا ، أو ميتة لنصراني : أكره أكل كرائه ، ولكن يقضى للحمال بالكراء . وإذا كان لمسلم ، فهو أشد كراهة . فاختلف أصحابه في هذا النص على ثلاث طرق .

إحداها : إجراؤه على ظاهره ، وأن المسألة رواية واحدة . قال ابن أبي موسى : وكره أحمد أن يؤجر المسلم نفسه لحمل ميتة أو خنزير لنصراني . فإن فعل ، قضي له بالكراء ، وهل يطيب له أم لا ؟ على وجهين . أوجههما : أنه لا يطيب له ، ويتصدق به ، وكذا ذكر أبو الحسن الآمدي ، قال : إذا أجر نفسه من رجل في حمل خمر ، أو خنزير ، أو ميتة كره ، نص عليه ، وهذه كراهة تحريم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن حاملها . إذا ثبت ذلك ، فيقضى له بالكراء ، وغير ممتنع أن يقضى له بالكراء ، وإن كان محرما كإجارة الحجام انتهى . فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمة عليه على الصحيح .

الطريقة الثانية : تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها ، وجعل المسألة رواية واحدة ، وهي أن هذه الإجارة لا تصح ، وهذه طريقة القاضي في " المجرد " ، وهي طريقة ضعيفة ، وقد رجع عنها في كتبه المتأخرة ، فإنه صنف " المجرد " قديما .

[ ص: 694 ] الطريقة الثالثة : تخريج هذه المسألة على روايتين إحداهما : أن هذه الإجارة صحيحة يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة . والثانية : لا تصح الإجارة ، ولا يستحق بها أجرة وإن حمل . وهذا على قياس قوله في الخمر : لا يجوز إمساكها ، وتجب إراقتها . قال في رواية أبي طالب ؛ إذا أسلم وله خمر أو خنازير ، تصب الخمر ، وتسرح الخنازير ، وقد حرما عليه ، وإن قتلها فلا بأس . فقد نص أحمد ، أنه لا يجوز إمساكها ، ولأنه قد نص في رواية ابن منصور : أنه يكره أن يؤاجر نفسه لنطارة كرم لنصراني ؛ لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر ، إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر ، فقد منع من إجارة نفسه على حمل الخمر ، وهذه طريقة القاضي في " تعليقه " وعليها أكثر أصحابه ، والمنصور عندهم : الرواية المخرجة ، وهي عدم الصحة ، وأنه لا يستحق أجرة ، ولا يقضى له بها ، وهي مذهب مالك ، والشافعي ، وأبي يوسف ، ومحمد .

وهذا إذا استأجر على حملها إلى بيته للشرب ، أو لأكل الخنزير ، أو مطلقا ، فأما إذا استأجره لحملها ليريقها ، أو لينقل الميتة إلى الصحراء لئلا يتأذى بها ، فإن الإجارة تجوز حينئذ ؛ لأنه عمل مباح ، لكن إن كانت الأجرة جلد الميتة لم تصح ، واستحق أجرة المثل ، وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه ، رده على صاحبه ، هذا قول شيخنا ، وهو مذهب مالك . والظاهر أنه مذهب الشافعي .

وأما مذهب أبي حنيفة رحمه الله : فمذهبه كالرواية الأولى ، أنه تصح الإجارة ، ويقضى له بالأجرة ، ومأخذه في ذلك ، أن الحمل إذا كان مطلقا ، لم يكن المستحق نفس حمل الخمر ، فذكره وعدم ذكره سواء ، وله أن يحمل شيئا آخر غيره ، كخل وزيت ، وهكذا قال : فيما لو أجره داره ، أو حانوته ليتخذها كنيسة ، أو ليبيع فيها الخمر ، قال أبو بكر الرازي : لا فرق عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيها الخمر ، أو لا يشترط وهو يعلم أنه يبيع فيه الخمر : أن الإجارة تصح ؛ لأنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء ، وإن شرط ذلك ؛ لأن له أن لا يبيع فيه الخمر ، ولا يتخذ الدار كنيسة ، ويستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة ، فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء ، [ ص: 695 ] كان ذكرها وتركها سواء ، كما لو اكترى دارا لينام فيها أو ليسكنها ، فإن الأجرة تستحق عليه ، وإن لم يفعل ذلك ، وكذا يقول : فيما إذا استأجر رجلا ليحمل خمرا أو ميتة ، أو خنزيرا : أنه يصح ؛ لأنه لا يتعين حمل الخمر ، بل لو حمله بدله عصيرا استحق الأجرة ، فهذا التقييد عندهم لغو ، فهو بمنزلة الإجارة المطلقة ، والمطلقة عنده جائزة . وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها ، كما يجوز بيع العصير لمن يتخذه خمرا ، ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة . قال : لأن السلاح معمول للقتال لا يصلح لغيره ، وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى ، وقالوا : ليس المقيد كالمطلق ، بل المنفعة المعقود عليها هي المستحقة ، فتكون هي المقابلة بالعوض ، وهي منفعة محرمة ، وإن كان للمستأجر أن يقيم غيرها مقامها ، وألزموه فيما لو اكترى دارا ليتخذها مسجدا ، فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه ، ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة بناء على أنها اقتضت فعل الصلاة ، وهي لا تستحق بعقد إجارة .

ونازعه أصحاب أحمد ومالك في المقدمة الثانية ، وقالوا : إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم ، حرمت الإجارة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عاصر الخمر ومعتصرها ، والعاصر إنما يعصر عصيرا ، ولكن لما علم أن المعتصر يريد أن يتخذه خمرا ، فيعصره له ، استحق اللعنة .

قالوا : وأيضا فإن في هذا معاونة على نفس ما يسخطه الله ويبغضه ، ويلعن فاعله ، فأصول الشرع وقواعده تقتضي تحريمه وبطلان العقد عليه ، وسيأتي مزيد تقرير هذا عند الكلام على حكمه صلى الله عليه وسلم بتحريم العينة وما يترتب عليها من العقوبة .

قال شيخنا : والأشبه طريقة ابن موسى ، يعني أنه يقضى له بالأجرة وإن كانت المنفعة محرمة ، ولكن لا يطيب له أكلها . قال : فإنها أقرب إلى مقصود أحمد ، وأقرب إلى القياس ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عاصر الخمر ، ومعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه . فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق [ ص: 696 ] عوضا ، وهي ليست محرمة في نفسها ، وإنما حرمت بقصد المعتصر والمستحمل ، فهو كما لو باع عنبا وعصيرا لمن يتخذه خمرا ، وفات العصير والخمر في يد المشتري ، فإن مال البائع لا يذهب مجانا ، بل يقضى له بعوضه . كذلك هنا المنفعة التي وفاها المؤجر ، لا تذهب مجانا ، بل يعطى بدلها ، فإن تحريم الانتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر ، لا من جهة المؤجر ، فإنه لو حملها للإراقة ، أو لإخراجها إلى الصحراء خشية التأذي بها ، جاز . ثم نحن نحرم الأجرة عليه لحق الله سبحانه لا لحق المستأجر والمشتري ، بخلاف من استؤجر للزنى أو التلوط أو القتل أو السرقة ، فإن نفس هذا العمل محرم لأجل قصد المستأجر ، فهو كما لو باع ميتة أو خمرا ، فإنه لا يقضى له بثمنها ؛ لأن نفس هذه العين محرمة ، وكذلك لا يقضى له بعوض هذه المنفعة المحرمة .

قال شيخنا : ومثل هذه الإجارة ، والجعالة ، يعني الإجارة على حمل الخمر والميتة ، لا توصف بالصحة مطلقا ، ولا بالفساد مطلقا ، بل يقال : هي صحيحة بالنسبة إلى المستأجر ، بمعنى أنه يجب عليه العوض ، وفاسدة بالنسبة إلى الأجير ، بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجر ، ولهذا في الشريعة نظائر . قال : ولا ينافي هذا نص أحمد على كراهة نطارة كرم النصراني ، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن عوضه ، ثم نقضي له بكرائه ، قال : ولو لم يفعل هذا ، لكان في هذا منفعة عظيمة للعصاة ، فإن كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية قد حصلوا غرضهم منه ، فإذا لم يعطوه شيئا ، ووجب أن يرد عليهم ما أخذ منهم ، كان ذلك أعظم العون لهم ، وليسوا بأهل أن يعاونوا على ذلك ، بخلاف من سلم إليهم عملا لا قيمة له بحال ، يعني كالزانية ، والمغني ، والنائحة ، فإن هؤلاء لا يقضى لهم بأجرة ، ولو قبضوا منهم المال ، فهل يلزمهم رده عليهم ، أم يتصدقون به ؟ فقد تقدم الكلام مستوفى في ذلك ، وبينا أن الصواب أنه لا يلزمهم رده ، ولا يطيب لهم أكله ، والله الموفق للصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية