صفحة جزء
وأما بيع اللبن في الضرع ، فإن كان معينا لم يمكن تسليم المبيع بعينه ، وإن كان بيع لبن موصوف في الذمة ، فهو نظير بيع عشرة أقفزة مطلقة من هذه الصبرة [ ص: 737 ] وهذا النوع له جهتان : جهة إطلاق وجهة تعيين ، ولا تنافي بينهما ، وقد دل على جوازه نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم في حائط بعينه إلا أن يكون قد بدا صلاحه ، رواه الإمام أحمد ، فإذا أسلم إليه في كيل معلوم من لبن هذه الشاة وقد صارت لبونا جاز ، ودخل تحت قوله : ( ونهى عن بيع ما في ضروعها إلا بكيل أو وزن ) فهذا إذن لبيعه بالكيل والوزن معينا أو مطلقا ؛ لأنه لم يفصل ، ولم يشترط سوى الكيل والوزن ، ولو كان التعيين شرطا لذكره .

فإن قيل : فما تقولون لو باعه لبنها أياما معلومة من غير كيل ولا وزن .

قيل : إن ثبت الحديث لم يجز بيعه إلا بكيل أو وزن ، وإن لم يثبت ، وكان لبنها معلوما لا يختلف بالعادة جاز بيعه أياما ، وجرى حكمه بالعادة مجرى كيله أو وزنه ، وإن كان مختلفا فمرة يزيد ، ومرة ينقص ، أو ينقطع فهذا غرر لا يجوز ، وهذا بخلاف الإجارة ، فإن اللبن يحدث على ملكه بعلفه الدابة ، كما يحدث الحب على ملكه بالسقي ، فلا غرر في ذلك ، نعم إن نقص اللبن عن العادة ، أو انقطع ، فهو بمنزلة نقصان المنفعة في الإجارة ، أو تعطيلها يثبت للمستأجر حق الفسخ ، أو ينقص عنه من الأجرة بقدر ما نقص عليه من المنفعة ، هذا قياس المذهب ، وقال ابن عقيل ، وصاحب " المغني " : إذا اختار الإمساك لزمته جميع الأجرة ؛ لأنه رضي بالمنفعة ناقصة ، فلزمه جميع العوض ، كما لو رضي بالمبيع معيبا ، والصحيح أنه يسقط عنه من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة ؛ لأنه إنما بذل العوض الكامل في منفعة كاملة سليمة ، فإذا لم تسلم له لم يلزمه جميع العوض .

وقولهم : إنه رضي بالمنفعة معيبة ، فهو كما لو رضي بالبيع معيبا ، جوابه من وجهين .

أحدهما : أنه إن رضي به معيبا ، بأن يأخذ أرشه كان له ذلك على ظاهر المذهب ، فرضاه بالعيب مع الأرش لا يسقط حقه .

[ ص: 738 ] الثاني : إن قلنا : إنه لا أرش لممسك له الرد ، لم يلزم سقوط الأرش في الإجارة ؛ لأنه قد استوفى بعض المعقود عليه ، فلم يمكنه رد المنفعة كما قبضها ؛ ولأنه قد يكون عليه ضرر في رد باقي المنفعة ، وقد لا يتمكن من ذلك ، فقد لا يجد بدا من الإمساك ، فإلزامه بجميع الأجرة مع العيب المنقص ظاهرا ، ومنعه من استدراك ظلامته إلا بالفسخ ضرر عليه ، ولا سيما لمستأجر الزرع والغرس والبناء ، أو مستأجر دابة للسفر فتتعيب في الطريق ، فالصواب : أنه لا أرش في المبيع لممسك له الرد ، وأنه في الإجارة له الأرش .

والذي يوضح هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بوضع الجوائح ، وهي أن يسقط عن مشتري الثمار من الثمرة ، بقدر ما أذهبت عليه الجائحة من ثمرته ، ويمسك الباقي بقسطه من الثمن ؛ وهذا لأن الثمار لم تستكمل صلاحها دفعة واحدة ، ولم تجر العادة بأخذها جملة واحدة ، وإنما تؤخذ شيئا فشيئا ، فهي بمنزلة المنافع في الإجارة سواء ، والنبي صلى الله عليه وسلم في المصراة خير المشتري بين الرد وبين الإمساك بلا أرش ، وفي الثمار جعل له الإمساك مع الأرش ، والفرق ما ذكرناه ، والإجارة أشبه ببيع الثمار ، وقد ظهر اعتبار هذا الشبه في وضع الشارع الجائحة قبل قبض الثمن .

فإن قيل : فالمنافع لا توضع فيها الجائحة باتفاق العلماء .

قيل : ليس هذا من باب وضع الجوائح في المنافع ، ومن ظن ذلك فقد وهم ، قال شيخنا : وليس هذا من باب وضع الجائحة في المبيع كما في الثمر المشترى ، بل هو من باب تلف المنفعة المقصودة بالعقد أو فواتها .

وقد اتفق العلماء على أن المنفعة في الإجارة إذا تلفت قبل التمكن من استيفائها ، فإنه لا تجب الأجرة مثل أن يستأجر حيوانا فيموت قبل التمكن من قبضه ، وهو بمنزلة أن يشتري قفيزا من صبرة فتتلف الصبرة قبل القبض والتمييز ، فإنه من ضمان البائع بلا نزاع ؛ ولهذا لو لم يتمكن المستأجر من ازدراع الأرض لآفة حصلت لم يكن عليه الأجرة .

[ ص: 739 ] وإن نبت الزرع ، ثم حصلت آفة سماوية أتلفته قبل التمكن من حصاده ففيه نزاع ، فطائفة ألحقته بالثمرة والمنفعة ، وطائفة فرقت ، والذين فرقوا بينه وبين الثمرة والمنفعة قالوا : الثمرة هي المعقود عليها وكذلك المنفعة ، وهنا الزرع ليس معقودا عليه ، بل المعقود عليه هو المنفعة وقد استوفاها ، والذين سووا بينهما قالوا : المقصود بالإجارة هو الزرع ، فإذا حالت الآفة السماوية بينه وبين المقصود بالإجارة ، كأن قد تلف المقصود بالعقد قبل التمكن من قبضه ، وإن لم يعاوض على زرع ، فقد عاوض على المنفعة التي يتمكن بها المستأجر من حصول الزرع ، فإذا حصلت الآفة السماوية المفسدة للزرع قبل التمكن من حصاده لم تسلم المنفعة المعقود عليها ، بل تلفت قبل التمكن من الانتفاع ، ولا فرق بين تعطيل منفعة الأرض في أول المدة أو في آخرها إذا لم يتمكن من استيفاء شيء من المنفعة ، ومعلوم أن الآفة السماوية إذا كانت بعد الزرع مطلقا بحيث لا يتمكن من الانتفاع بالأرض مع تلك الآفة ، فلا فرق بين تقدمها وتأخرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية