صفحة جزء
فصل

ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم سرد الصوم وصيام الدهر ، بل قد قال : ( من صام الدهر لا صام ولا أفطر ) وليس مراده بهذا من صام الأيام المحرمة فإنه ذكر ذلك جوابا لمن قال : أرأيت من صام الدهر ؟ ولا يقال في جواب من فعل المحرم : لا صام ولا أفطر ، فإن هذا يؤذن بأنه سواء فطره وصومه لا يثاب عليه ، ولا يعاقب ، وليس كذلك من فعل ما حرم الله عليه من الصيام ، فليس هذا جوابا مطابقا للسؤال عن المحرم من الصوم ، وأيضا فإن هذا عند من استحب صوم الدهر قد فعل مستحبا وحراما ، وهو عندهم قد صام بالنسبة إلى أيام الاستحباب وارتكب محرما بالنسبة إلى أيام التحريم وفي كل منهما لا يقال : " لا صام ولا أفطر " . فتنزيل قوله على ذلك غلط ظاهر .

وأيضا فإن أيام التحريم مستثناة بالشرع غير قابلة للصوم شرعا فهي بمنزلة الليل شرعا وبمنزلة أيام الحيض فلم يكن الصحابة ليسألوه عن صومها ، وقد علموا عدم قبولها للصوم ولم يكن ليجيبهم لو لم يعلموا التحريم بقوله : ( لا صام ولا أفطر ) فإن هذا ليس فيه بيان للتحريم .

[ ص: 77 ] فهديه لا شك فيه أن صيام يوم وفطر يوم أفضل من صوم الدهر وأحب إلى الله .

وسرد صيام الدهر مكروه ، فإنه لو لم يكن مكروها لزم أحد ثلاثة أمور ممتنعة : أن يكون أحب إلى الله من صوم يوم وفطر يوم ، وأفضل منه ؛ لأنه زيادة عمل ، وهذا مردود بالحديث الصحيح : ( إن أحب الصيام إلى الله صيام داود ) وإنه لا أفضل منه . وإما أن يكون مساويا في الفضل وهو ممتنع أيضا ، وإما أن يكون مباحا متساوي الطرفين لا استحباب فيه ، ولا كراهة ، وهذا ممتنع ، إذ ليس هذا شأن العبادات ، بل إما أن تكون راجحة أو مرجوحة ، والله أعلم .

فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من صام رمضان وأتبعه ستة أيام من شوال فكأنما صام الدهر ) . وقال فيمن صام ثلاثة أيام من كل شهر : ( إن ذلك يعدل صوم الدهر ) ، وذلك يدل على أن صوم الدهر أفضل مما عدل به ، وأنه أمر مطلوب ، وثوابه أكثر من ثواب الصائمين ، حتى شبه به من صام هذا الصيام .

قيل : نفس هذا التشبيه في الأمر المقدر لا يقتضي جوازه فضلا عن استحبابه ، وإنما يقتضي التشبيه به في ثوابه لو كان مستحبا ، والدليل عليه من نفس الحديث ، فإنه جعل صيام ثلاثة أيام من كل شهر بمنزلة صيام الدهر ، إذ الحسنة بعشر أمثالها وهذا يقتضي أن يحصل له ثواب من صام ثلاثمائة وستين يوما ، ومعلوم أن هذا حرام قطعا ، فعلم أن المراد به حصول هذا الثواب على [ ص: 78 ] تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوما .

وكذلك قوله في صيام ستة أيام من شوال ، إنه يعدل مع صيام رمضان السنة ، ثم قرأ : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) [ الأنعام : 160 ] ، فهذا صيام ستة وثلاثين يوما تعدل صيام ثلاثمائة وستين يوما ، وهو غير جائز بالاتفاق ، بل قد يجيء مثل هذا فيما يمتنع فعل المشبه به عادة ، بل يستحيل ، وإنما شبه به من فعل ذلك على تقدير إمكانه ، كقوله لمن سأله عن عمل يعدل الجهاد : ( هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تقوم ولا تفتر ، وأن تصوم ولا تفطر ) ؟ ومعلوم أن هذا ممتنع عادة ، كامتناع صوم ثلاثمائة وستين يوما شرعا ، وقد شبه العمل الفاضل بكل منهما يزيده وضوحا : أن أحب القيام إلى الله قيام داود ، وهو أفضل من قيام الليل كله بصريح السنة الصحيحة ، وقد مثل ( من صلى العشاء الآخرة ، والصبح في جماعة ، بمن قام الليل كله ) .

فإن قيل : فما تقولون في حديث أبي موسى الأشعري : ( من صام الدهر ضيقت عليه جهنم حتى تكون هكذا وقبض كفه ) وهو في " مسند أحمد " ؟ .

قيل قد اختلف في معنى هذا الحديث . فقيل : ضيقت عليه حصرا له فيها ، لتشديده على نفسه ، وحمله عليها ، ورغبته عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واعتقاده أن غيره أفضل منه .

وقال آخرون : بل ضيقت عليه ، فلا يبقى له فيها موضع ، [ ص: 79 ] ورجحت هذه الطائفة هذا التأويل ، بأن الصائم لما ضيق على نفسه مسالك الشهوات وطرقها بالصوم ضيق الله عليه النار ، فلا يبقى له فيها مكان ، لأنه ضيق طرقها عنه ، ورجحت الطائفة الأولى تأويلها بأن قالت : لو أراد هذا المعنى لقال : ضيقت عنه ، وأما التضييق عليه فلا يكون إلا وهو فيها .

قالوا : وهذا التأويل موافق لأحاديث كراهة صوم الدهر ، وأن فاعله بمنزلة من لم يصم ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية