صفحة جزء
فصل

وأما حديث أبي الأسود ، عن عروة عنها . وفيه : " وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة ، فلم يحلوا حتى كان يوم النحر " . وحديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عنها : فمن كان أهل بحج وعمرة معا ، لم يحل من شيء مما حرم منه حتى يقضي مناسك الحج ، ومن أهل بحج مفرد كذلك " . فحديثان قد أنكرهما الحفاظ ، وهما أهل أن ينكرا .

قال الأثرم : حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن مالك بن أنس ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، عن عائشة : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فمنا من أهل بالحج ، ومنا من أهل بالعمرة ، ومنا من أهل بالحج والعمرة ، وأهل بالحج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأما من أهل بالعمرة ، فأحلوا حين طافوا بالبيت وبالصفا والمروة ، وأما من أهل بالحج والعمرة ، فلم يحلوا إلى يوم النحر ، فقال أحمد بن حنبل : أيش في هذا الحديث من العجب ، هذا خطأ ، فقال [ ص: 188 ] الأثرم : فقلت له : الزهري ، عن عروة ، عن عائشة بخلافه ؟ فقال : نعم ، وهشام بن عروة . وقال الحافظ أبو محمد بن حزم : هذان حديثان منكران جدا ، قال : ولأبي الأسود في هذا النحو حديث لا خفاء بنكرته ووهنه وبطلانه . والعجب كيف جاز على من رواه ؟ ثم ساق من طريق البخاري عنه أن عبد الله مولى أسماء حدثه أنه كان يسمع أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما تقول كلما مرت بالحجون : صلى الله على رسوله لقد نزلنا معه هاهنا ، ونحن يومئذ خفاف قليل ظهرنا ، قليلة أزوادنا ، فاعتمرت أنا وأختي عائشة والزبير وفلان وفلان ، فلما مسحنا البيت أحللنا ، ثم أهللنا من العشي بالحج . قال : وهذه وهلة لا خفاء بها على أحد ممن له أقل علم بالحديث لوجهين باطلين فيه بلا شك .

أحدهما : قوله فاعتمرت أنا وأختي عائشة ، ولا خلاف بين أحد من أهل النقل في أن عائشة لم تعتمر في أول دخولها مكة ، ولذلك أعمرها من التنعيم بعد تمام الحج ليلة الحصبة ، هكذا رواه جابر بن عبد الله ، ورواه عن عائشة الأثبات ، كالأسود بن يزيد ، وابن أبي مليكة ، والقاسم بن محمد ، وعروة ، وطاووس ومجاهد .

الموضع الثاني : قوله فيه : فلما مسحنا البيت ، أحللنا ، ثم أهللنا من العشي بالحج ، وهذا باطل لا شك فيه ؛ لأن جابرا ، وأنس بن مالك ، وعائشة ، وابن عباس ، كلهم رووا أن الإحلال كان يوم دخولهم مكة ، وأن إحلالهم بالحج كان يوم التروية ، وبين اليومين المذكورين ثلاثة أيام بلا شك .

قلت : الحديث ليس بمنكر ولا باطل ، وهو صحيح ، وإنما أتي أبو محمد فيه من فهمه ، فإن أسماء أخبرت أنها اعتمرت هي وعائشة ، وهكذا وقع بلا شك . وأما قولها : فلما مسحنا البيت أحللنا ، فإخبار منها عن نفسها ، وعمن لم يصبه [ ص: 189 ] عذر الحيض الذي أصاب عائشة ، وهي لم تصرح بأن عائشة مسحت البيت يوم دخولهم مكة ، وأنها حلت ذلك اليوم ، ولا ريب أن عائشة قدمت بعمرة ، ولم تزل عليها حتى حاضت بسرف ، فأدخلت عليها الحج ، وصارت قارنة . فإذا قيل : اعتمرت عائشة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أو قدمت بعمرة ، لم يكن هذا كذبا .

وأما قولها : ثم أهللنا من العشي بالحج ، فهي لم تقل : إنهم أهلوا من عشي يوم القدوم ، ليلزم ما قالأبو محمد ، وإنما أرادت عشي يوم التروية . ومثل هذا لا يحتاج في ظهوره وبيانه إلى أن يصرح فيه بعشي ذلك اليوم بعينه ؛ لعلم الخاص والعام به ، وأنه مما لا تذهب الأوهام إلى غيره ، فرد أحاديث الثقات بمثل هذا الوهم مما لا سبيل إليه .

قال أبو محمد : وأسلم الوجوه للحديثين المذكورين عن عائشة ، يعني اللذين أنكرهما ، أن تخرج روايتهما على أن المراد بقولها : إن الذين أهلوا بحج ، أو بحج وعمرة ، لم يحلوا حتى كان يوم النحر حين قضوا مناسك الحج ، إنما عنت بذلك من كان معه الهدي ، وبهذا تنتفي النكرة عن هذين الحديثين ، وبهذا تأتلف الأحاديث كلها ؛ لأن الزهري عن عروة يذكر خلاف ما ذكره أبو الأسود عن عروة ، والزهري بلا شك أحفظ من أبي الأسود ، وقد خالف يحيى بن عبد الرحمن عن عائشة في هذا الباب من لا يقرن يحيى بن عبد الرحمن إليه ، لا في حفظ ولا في ثقة ، ولا في جلالة ، ولا في بطانة لعائشة ، كالأسود بن يزيد ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر ، وأبي عمرو ذكوان مولى عائشة ، وعمرة بنت عبد الرحمن ، وكانت في حجر عائشة ، وهؤلاء هم أهل الخصوصية والبطانة بها ، فكيف ؟ ولو لم يكونوا كذلك ، لكانت روايتهم أو رواية واحد منهم لو انفرد هي الواجب أن يؤخذ بها ؛ لأن فيها زيادة على رواية أبي الأسود ويحيى ، وليس من جهل ، أو غفل حجة على من علم ، وذكر وأخبر ، فكيف وقد وافق هؤلاء الجلة عن عائشة ، فسقط التعلق بحديث أبي الأسود ويحيى اللذين ذكرنا .

[ ص: 190 ] قال : وأيضا ، فإن حديثي أبي الأسود ويحيى موقوفان غير مسندين ؛ لأنهما إنما ذكرا عنها فعل من فعل ما ذكرت دون أن يذكرا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمرهم أن لا يحلوا ، ولا حجة في أحد دون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم ، فلو صح ما ذكراه ، وقد صح أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من لا هدي معه بالفسخ ، فتمادى المأمورون بذلك ، ولم يحلوا لكانوا عصاة لله تعالى ، وقد أعاذهم الله من ذلك ، وبرأهم منه ، فثبت يقينا أن حديث أبي الأسود ويحيى إنما عني فيهما : من كان معه هدي ، وهكذا جاءت الأحاديث الصحاح التي أوردناها بأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر من معه الهدي بأن يجمع حجا مع العمرة ، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا .

ثم ساق من طريق مالك عن ابن شهاب ، عن عروة ، عنها ترفعه ( من كان معه هدي ، فليهلل بالحج والعمرة ، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا ) ، قال : فهذا الحديث كما ترى من طريق عروة عن عائشة يبين ما ذكرنا أنه المراد بلا شك في حديث أبي الأسود عن عروة ، وحديث يحيى عن عائشة ، وارتفع الآن الإشكال جملة ، والحمد لله رب العالمين .

قال : ومما يبين أن في حديث أبي الأسود حذفا قوله فيه : عن عروة " أن أمه وخالته والزبير ، أقبلوا بعمرة فقط ، فلما مسحوا الركن حلوا " . ولا خلاف بين أحد أن من أقبل بعمرة لا يحل بمسح الركن ، حتى يسعى بين الصفا والمروة بعد مسح الركن ، فصح أن في الحديث حذفا بينه سائر الأحاديث الصحاح التي ذكرنا ، وبطل التشغيب به جملة ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية