صفحة جزء
فصل

ثم أفاض - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة قبل الظهر راكبا ، فطاف طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة وهو طواف الصدر ، ولم يطف غيره ، ولم يسع معه هذا هو الصواب ، وقد خالف في ذلك ثلاث طوائف : طائفة زعمت أنه طاف طوافين طوافا للقدوم سوى طواف الإفاضة ، ثم طاف للإفاضة ، وطائفة زعمت أنه سعى مع هذا الطواف لكونه كان قارنا ، وطائفة زعمت أنه لم يطف في ذلك اليوم ، وإنما أخر طواف الزيارة إلى الليل ، فنذكر الصواب في ذلك ، ونبين منشأ الغلط وبالله التوفيق .

قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : فإذا رجع أعني المتمتع كم يطوف ويسعى ؟ قال يطوف ويسعى لحجه ويطوف طوافا آخر للزيارة ، عاودناه في هذا غير مرة فثبت عليه.

قال الشيخ أبو محمد المقدسي في " المغني " : وكذلك الحكم في القارن والمفرد إذا لم يكونا أتيا مكة قبل يوم النحر ولا طافا للقدوم ، فإنهما يبدآن بطواف القدوم قبل طواف الزيارة نص عليه أحمد - رحمه الله - واحتج بما روت عائشة - رضي الله عنها - ، قالت : " فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم حلوا ، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى ؛ لحجهم " ، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة ، فإنما طافوا طوافا واحدا ، فحمل أحمد - رحمه الله - قول عائشة ، على أن طوافهم لحجهم هو طواف القدوم ، قال : ولأنه قد ثبت أن طواف القدوم مشروع فلم يكن طواف الزيارة مسقطا له كتحية المسجد عند دخوله قبل التلبس بالصلاة المفروضة .

وقال الخرقي في " مختصره " : وإن كان متمتعا ، فيطوف بالبيت سبعا وبالصفا والمروة سبعا كما فعل للعمرة ، ثم يعود فيطوف بالبيت طوافا ينوي به [ ص: 251 ] الزيارة وهو قوله تعالى : ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) [ الحج : 29 ] فمن قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متمتعا كالقاضي وأصحابه عندهم هكذا فعل ، والشيخ أبو محمد عنده أنه كان متمتعا التمتع الخاص ، ولكن لم يفعل هذا ، قال : ولا أعلم أحدا وافق أبا عبد الله على هذا الطواف الذي ذكره الخرقي ، بل المشروع طواف واحد للزيارة كمن دخل المسجد ، وقد أقيمت الصلاة فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد ، ولأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه الذين تمتعوا معه في حجة الوداع ، ولا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به أحدا ، قال : وحديث عائشة دليل على هذا ، فإنها قالت : " طافوا طوافا واحدا بعد أن رجعوا من منى ؛ لحجهم " وهذا هو طواف الزيارة ولم تذكر طوافا آخر . ولو كان هذا الذي ذكرته طواف القدوم ، لكانت قد أخلت بذكر طواف الزيارة الذي هو ركن الحج الذي لا يتم إلا به ، وذكرت ما يستغنى عنه ، وعلى كل حال فما ذكرت إلا طوافا واحدا ، فمن أين يستدل به على طوافين ؟

وأيضا ، فإنها لما حاضت فقرنت الحج إلى العمرة بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم تكن طافت للقدوم ، لم تطف للقدوم ، ولا أمرها به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولأن طواف القدوم لو لم يسقط بالطواف الواجب لشرع في حق المعتمر طواف القدوم مع طواف العمرة ؛ لأنه أول قدومه إلى البيت ، فهو به أولى من المتمتع الذي يعود إلى البيت بعد رؤيته وطوافه به . انتهى كلامه .

قلت : لم يرفع كلام أبي محمد الإشكال وإن كان الذي أنكره هو الحق ، كما أنكره والصواب في إنكاره ، فإن أحدا لم يقل : إن الصحابة لما رجعوا من عرفة ، طافوا للقدوم وسعوا ، ثم طافوا للإفاضة بعده ، ولا النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا لم يقع قطعا ، ولكن كان منشأ الإشكال أن أم المؤمنين فرقت بين المتمتع والقارن ، فأخبرت أن القارنين طافوا بعد أن رجعوا من منى طوافا واحدا ، وأن الذين أهلوا بالعمرة طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى ؛ لحجهم وهذا غير طواف الزيارة قطعا ، فإنه يشترك فيه القارن والمتمتع فلا فرق بينهما فيه ولكن الشيخ أبا [ ص: 252 ] محمد ، لما رأى قولها في المتمتعين : إنهم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى ، قال : ليس في هذا ما يدل على أنهم طافوا طوافين والذي قاله حق ، ولكن لم يرفع الإشكال فقالت طائفة هذه الزيادة من كلام عروة ، أو ابنه هشام ، أدرجت في الحديث ، وهذا لا يتبين ، ولو كان فغايته أنه مرسل ولم يرتفع الإشكال عنه بالإرسال .

فالصواب : أن الطواف الذي أخبرت به عائشة ، وفرقت به بين المتمتع والقارن هو الطواف بين الصفا والمروة ، لا الطواف بالبيت ، وزال الإشكال جملة ، فأخبرت عن القارنين أنهم اكتفوا بطواف واحد بينهما ، لم يضيفوا إليه طوافا آخر يوم النحر ، وهذا هو الحق ، وأخبرت عن المتمتعين أنهم طافوا بينهما طوافا آخر بعد الرجوع من منى للحج ، وذلك الأول كان للعمرة وهذا قول الجمهور ، وتنزيل الحديث على هذا موافق لحديثها الآخر وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يسعك طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة لحجك وعمرتك " ، وكانت قارنة يوافق قول الجمهور .

ولكن يشكل عليه حديث جابر الذي رواه مسلم في " صحيحه " : لم يطف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا ، طوافه الأول . هذا يوافق قول من يقول يكفي المتمتع سعي واحد ، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد - رحمه الله - نص عليها في رواية ابنه عبد الله وغيره وعلى هذا ، فيقال عائشة أثبتت وجابر نفى ، والمثبت مقدم على النافي .

أو يقال مراد جابر من قرن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وساق الهدي كأبي بكر وعمر وطلحة وعلي - رضي الله عنهم - وذوي اليسار فإنهم إنما سعوا سعيا واحدا .

وليس المراد به عموم الصحابة ، أو يعلل حديث عائشة ، بأن تلك الزيادة فيه مدرجة من قول هشام وهذه ثلاث طرق للناس في حديثها والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية