صفحة جزء
فصل

والطائفة الثالثة الذين قالوا : أخر طواف الزيارة إلى الليل ، وهم طاووس ، ومجاهد ، وعروة ، ففي " سنن أبي داود " ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث أبي الزبير المكي ، عن عائشة وابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر طوافه يوم النحر إلى الليل ) ، وفي لفظ " طواف الزيارة" ، قال الترمذي : حديث حسن .

وهذا الحديث غلط بين خلاف المعلوم من فعله صلى الله عليه وسلم الذي لا يشك فيه أهل العلم بحجته صلى الله عليه وسلم ، فنحن نذكر كلام الناس فيه ، قال الترمذي في كتاب " العلل " له : سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث وقلت له : أسمع أبو الزبير من عائشة وابن عباس ؟ قال : أما من ابن عباس فنعم وفي سماعه من عائشة [ ص: 255 ] نظر .

وقال أبو الحسن القطان : عندي أن هذا الحديث ليس بصحيح ، إنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ نهارا ، وإنما اختلفوا : هل صلى الظهر بمكة أو رجع إلى منى ، فصلى الظهر بها بعد أن فرغ من طوافه ؟ فابن عمر يقول : إنه رجع إلى منى ، فصلى الظهر بها ، وجابر يقول : إنه صلى الظهر بمكة ، وهو ظاهر حديث عائشة من غير رواية أبي الزبير هذه التي فيها أنه أخر الطواف إلى الليل ، وهذا شيء لم يرو إلا من هذا الطريق وأبو الزبير مدلس لم يذكر هاهنا سماعا من عائشة ، وقد عهد أنه يروي عنها بواسطة ، ولا عن ابن عباس أيضا ، فقد عهد كذلك أنه يروي عنه بواسطة ، وإن كان قد سمع منه فيجب التوقف فيما يرويه أبو الزبير عن عائشة وابن عباس مما لا يذكر فيه سماعه منهما ، لما عرف به من التدليس لو عرف سماعه منها لغير هذا ، فأما ولم يصح لنا أنه سمع من عائشة ، فالأمر بين في وجوب التوقف فيه ، وإنما يختلف العلماء في قبول حديث المدلس إذا كان عمن قد علم لقاؤه له وسماعه منه هاهنا .

يقول قوم : يقبل ، ويقول آخرون : يرد ما يعنعنه عنهم حتى يتبين الاتصال في حديث حديث ، وأما ما يعنعنه المدلس عمن لم يعلم لقاؤه له ولا سماعه منه فلا أعلم الخلاف فيه بأنه لا يقبل .

ولو كنا نقول بقول مسلم بأن معنعن المتعاصرين محمول على الاتصال ولو لم يعلم التقاؤهما ، فإنما ذلك في غير المدلسين .

وأيضا فلما قدمناه من صحة طواف النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ نهارا . والخلاف في رد حديث المدلسين حتى يعلم اتصاله أو قبوله حتى يعلم انقطاعه ، إنما هو إذا لم يعارضه ما لا شك في صحته ، وهذا قد عارضه ما لا شك في صحته . انتهى كلامه .

ويدل على غلط أبي الزبير على عائشة أن أبا سلمة بن عبد الرحمن روى : ( عن عائشة أنها قالت : حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر ) .

وروى محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 256 ] ( أذن لأصحابه فزاروا البيت يوم النحر ظهيرة ، وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه ليلا ) ، وهذا غلط أيضا .

قال البيهقي : وأصح هذه الروايات حديث نافع عن ابن عمر وحديث جابر وحديث أبي سلمة عن عائشة يعني : أنه طاف نهارا . قلت : إنما نشأ الغلط من تسمية الطواف ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخر طواف الوداع إلى الليل ، كما ثبت في " الصحيحين " من حديث عائشة . قالت : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم . . . فذكرت الحديث ، إلى أن قالت : فنزلنا المحصب ، فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال : اخرج بأختك من الحرم ، ثم افرغا من طوافكما ، ثم ائتياني هاهنا بالمحصب . قالت : فقضى الله العمرة ، وفرغنا من طوافنا في جوف الليل ، فأتيناه بالمحصب ، فقال : " فرغتما " ؟ قلنا : نعم . فأذن في الناس بالرحيل ، فمر بالبيت فطاف به ، ثم ارتحل متوجها إلى المدينة . فهذا هو الطواف الذي أخره إلى الليل بلا ريب ، فغلط فيه أبو الزبير ، أو من حدثه به ، وقال : "طواف الزيارة "، والله الموفق .

ولم يرمل صلى الله عليه وسلم في هذا الطواف ولا في طواف الوداع وإنما رمل في طواف القدوم .

التالي السابق


الخدمات العلمية