صفحة جزء
فصل

هاهنا ثلاث مسائل : هل دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت في حجته أم لا ؟ وهل وقف في الملتزم بعد الوداع ، أم لا ؟ وهل صلى الصبح ليلة الوداع بمكة ، أو خارجا منها ؟

فأما المسألة الأولى ، فزعم كثير من الفقهاء وغيرهم أنه دخل البيت في حجته ، ويرى كثير من الناس أن دخول البيت من سنن الحج اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم . والذي تدل عليه سنته أنه لم يدخل البيت في حجته ولا في عمرته ، وإنما دخله عام الفتح ففي " الصحيحين ( عن ابن عمر ، قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقة لأسامة ، حتى أناخ بفناء الكعبة ، فدعا عثمان بن طلحة بالمفتاح ، فجاءه به ، ففتح فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وأسامة ، وبلال ، وعثمان بن طلحة ، فأجافوا عليهم الباب مليا ، ثم فتحوه . قال عبد الله : فبادرت الناس ، فوجدت بلالا على الباب . فقلت : أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بين العمودين المقدمين . قال : ونسيت أن أسأله كم صلى ) .

وفي " صحيح البخاري " عن ( ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة ، أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة قال : فأمر بها فأخرجت ، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قاتلهم الله ، أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط " . قال : فدخل البيت فكبر في نواحيه ، ولم يصل فيه ) .

[ ص: 273 ] فقيل : كان ذلك دخولين صلى في أحدهما ، ولم يصل في الآخر .

وهذه طريقة ضعفاء النقد كلما رأوا اختلاف لفظ جعلوه قصة أخرى ، كما جعلوا الإسراء مرارا لاختلاف ألفاظه ، وجعلوا اشتراءه من جابر بعيره مرارا ؛ لاختلاف ألفاظه ، وجعلوا طواف الوداع مرتين ؛ لاختلاف سياقه ، ونظائر ذلك .

وأما الجهابذة النقاد فيرغبون عن هذه الطريقة ، ولا يجبنون عن تغليط من ليس معصوما من الغلط ، ونسبته إلى الوهم ، قال البخاري وغيره من الأئمة : والقول قول بلال ؛ لأنه مثبت شاهد صلاته ، بخلاف ابن عباس . والمقصود أن دخوله البيت إنما كان في غزوة الفتح ، لا في حجه ولا عمره ، وفي " صحيح البخاري " ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، قال : قلت لعبد الله بن أبي أوفى : أدخل النبي صلى الله عليه وسلم في عمرته البيت ؟ قال : لا .

( وقالت عائشة : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين طيب النفس ، ثم رجع إلي وهو حزين القلب ، فقلت : يا رسول الله ، خرجت من عندي وأنت كذا وكذا . فقال : إني دخلت الكعبة ، ووددت أني لم أكن فعلت ، إني أخاف أن أكون قد أتعبت أمتي من بعدي ) فهذا ليس فيه أنه كان فيه حجته بل [ ص: 274 ] إذا تأملته حق التأمل أطلعك التأمل على أنه كان في غزاة الفتح ، والله أعلم ، وسألته عائشة أن تدخل البيت ، فأمرها أن تصلي في الحجر ركعتين .

التالي السابق


الخدمات العلمية