صفحة جزء
فصل

وأما الكنية فهي نوع تكريم للمكني ، وتنويه به كما قال الشاعر :


أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب



( وكنى النبي صلى الله عليه وسلم صهيبا بأبي يحيى ، وكنى عليا رضي الله عنه بأبي تراب إلى كنيته بأبي الحسن ، وكانت أحب كنيته إليه ، وكنى أخا أنس بن مالك وكان صغيرا دون البلوغ بأبي عمير ) .

وكان هديه صلى الله عليه وسلم تكنية من له ولد ، ومن لا ولد له ، ولم يثبت عنه أنه نهى عن كنية إلا الكنية بأبي القاسم ، فصح عنه أنه قال : ( تسموا باسمي ، ولا تكنوا بكنيتي ) فاختلف الناس في ذلك على أربعة أقوال .

[ ص: 315 ] أحدها : أنه لا يجوز التكني بكنيته مطلقا ، سواء أفردها عن اسمه أو قرنها به ، وسواء محياه وبعد مماته ، وعمدتهم عموم هذا الحديث الصحيح وإطلاقه ، وحكى البيهقي ذلك عن الشافعي ، قالوا : لأن النهي إنما كان لأن معنى هذه الكنية والتسمية مختصة به صلى الله عليه وسلم ، وقد أشار إلى ذلك بقوله ( والله لا أعطي أحدا ، ولا أمنع أحدا ، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت ) قالوا : ومعلوم أن هذه الصفة ليست على الكمال لغيره . واختلف هؤلاء في جواز تسمية المولود بقاسم ، فأجازه طائفة ومنعه آخرون ، والمجيزون نظروا إلى أن العلة عدم مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم فيما اختص به من الكنية ، وهذا غير موجود في الاسم ، والمانعون نظروا إلى أن المعنى الذي نهى عنه في الكنية موجود مثله هنا في الاسم سواء ، أو هو أولى بالمنع ، قالوا : وفي قوله ( إنما أنا قاسم ) إشعار بهذا الاختصاص .

القول الثاني : أن النهي إنما هو عن الجمع بين اسمه وكنيته ، فإذا أفرد أحدهما عن الآخر ، فلا بأس . قالأبو داود : باب : من رأى أن لا يجمع بينهما ، ثم ذكر حديث أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من تسمى باسمي فلا يتكن بكنيتي ، ومن تكنى بكنيتي فلا يتسم باسمي ) ورواه الترمذي وقال حديث [ ص: 316 ] حسن غريب ، وقد رواه الترمذي أيضا من حديث محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة ، وقال حسن صحيح ، ولفظه : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع أحد بين اسمه وكنيته ، ويسمي محمدا أبا القاسم ، قال أصحاب هذا القول : فهذا مقيد مفسر لما في " الصحيحين " من نهيه عن التكني بكنيته قالوا : ولأن في الجمع بينهما مشاركة في الاختصاص بالاسم والكنية ، فإذا أفرد أحدهما عن الآخر زال الاختصاص .

القول الثالث ، جواز الجمع بينهما ، وهو المنقول عن مالك ، واحتج أصحاب هذا القول بما رواه أبو داود والترمذي من حديث محمد ابن الحنفية ، عن علي رضي الله عنه قال قلت : يا رسول الله إن ولد لي ولد من بعدك أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك ؟ قال " نعم " قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

وفي " سنن أبي داود " عن عائشة قالت : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إني ولدت غلاما فسميته محمدا وكنيته أبا القاسم فذكر لي أنك تكره ذلك ؟ فقال : ( ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي ) أو " ما الذي حرم كنيتي وأحل اسمي " قال هؤلاء : وأحاديث المنع منسوخة بهذين الحديثين .

القول الرابع : إن التكني بأبي القاسم كان ممنوعا منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو جائز بعد وفاته ، قالوا : وسبب النهي إنما كان مختصا بحياته ، فإنه قد ثبت في " الصحيح " من حديث أنس قال : نادى رجل بالبقيع : يا أبا القاسم ، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال يا رسول الله ، إني لم أعنك إنما دعوت فلانا ، فقال [ ص: 317 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي ) قالوا : وحديث علي فيه إشارة إلى ذلك بقوله إن ولد لي من بعدك ولد ، ولم يسأله عمن يولد له في حياته ، ولكن قال علي رضي الله عنه في هذا الحديث : " وكانت رخصة لي " وقد شذ من لا يؤبه لقوله ، فمنع التسمية باسمه صلى الله عليه وسلم قياسا على النهي عن التكني بكنيته ، والصواب أن التسمي باسمه جائز ، والتكني بكنيته ممنوع منه ، والمنع في حياته أشد ، والجمع بينهما ممنوع منه ، وحديث عائشة غريب لا يعارض بمثله الحديث الصحيح ، وحديث علي رضي الله عنه في صحته نظر ، والترمذي فيه نوع تساهل في التصحيح ، وقد قال علي : إنها رخصة له ، وهذا يدل على بقاء المنع لمن سواه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية