صفحة جزء
فصل ( وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل على أهله ربما يسألهم هل عندكم طعام ؟ وما عاب طعاما قط ، بل كان إذا اشتهاه أكله ، وإن كرهه تركه وسكت ) وربما قال : ( أجدني أعافه ، إني لا أشتهيه )

[ ص: 367 ] وكان يمدح الطعام أحيانا ، كقوله لما سأل أهله الإدام فقالوا : ما عندنا إلا خل ، فدعا به فجعل يأكل منه ويقول : ( نعم الأدم الخل ) وليس في هذا تفضيل له على اللبن واللحم والعسل والمرق ، وإنما هو مدح له في تلك الحال التي حضر فيها ، ولو حضر لحم أو لبن كان أولى بالمدح منه ، وقال هذا جبرا وتطييبا لقلب من قدمه ، لا تفضيلا له على سائر أنواع الإدام .

وكان إذا قرب إليه طعام وهو صائم قال : ( إني صائم ) وأمر من قرب إليه الطعام وهو صائم أن يصلي أي يدعو لمن قدمه ، وإن كان مفطرا أن يأكل منه .

وكان إذا دعي لطعام وتبعه أحد ، أعلم به رب المنزل وقال : ( إن هذا تبعنا ، فإن شئت أن تأذن له وإن شئت رجع ) وكان يتحدث على طعامه كما تقدم في حديث الخل ، وكما قال لربيبه عمر بن أبي سلمة وهو يؤاكله : ( سم الله وكل مما يليك ) .

[ ص: 368 ] وربما كان يكرر على أضيافه عرض الأكل عليهم مرارا ، كما يفعله أهل الكرم كما في حديث أبي هريرة عند البخاري في قصة شرب اللبن وقوله له مرارا : اشرب " ، فما زال يقول اشرب حتى قال : ( والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا )

وكان إذا أكل عند قوم لم يخرج حتى يدعو لهم فدعا في منزل عبد الله بن بسر ، فقال : ( اللهم بارك لهم فيما رزقتهم ، واغفر لهم وارحمهم ) ذكره مسلم . ودعا في منزل سعد بن عبادة فقال : ( أفطر عندكم الصائمون ، وأكل طعامكم الأبرار ، وصلت عليكم الملائكة ) وذكر أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما دعاه أبو الهيثم بن التيهان هو وأصحابه فأكلوا ، فلما فرغوا قال : ( أثيبوا أخاكم " قالوا : يا رسول الله وما إثابته ؟ قال : " إن الرجل إذا دخل بيته فأكل طعامه وشرب شرابه فدعوا له فذلك إثابته ) . وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه دخل منزله ليلة فالتمس طعاما فلم يجده فقال : ( اللهم أطعم من أطعمني ، واسق من سقاني ) .

[ ص: 369 ] وذكر عنه أن عمرو بن الحمق سقاه لبنا فقال : ( اللهم أمتعه بشبابه ) فمرت عليه ثمانون سنة لم ير شعرة بيضاء .

وكان يدعو لمن يضيف المساكين ، ويثني عليهم ، فقال مرة : ألا رجل يضيف هذا رحمه الله ، وقال للأنصاري وامرأته اللذين آثرا بقوتهما وقوت صبيانهما ضيفهما : ( لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة )

وكان لا يأنف من مؤاكلة أحد صغيرا كان أو كبيرا ، حرا أو عبدا ، أعرابيا أو مهاجرا ، حتى لقد روى أصحاب السنن عنه أنه أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة فقال ( كل بسم الله ثقة بالله ، وتوكلا عليه )

وكان يأمر بالأكل باليمين وينهى عن الأكل بالشمال ويقول ( إن الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بشماله ) ومقتضى هذا تحريم الأكل بها ، وهو الصحيح فإن الآكل بها ، إما شيطان وإما مشبه به . وصح عنه أنه قال لرجل أكل [ ص: 370 ] عنده فأكل بشماله ( "كل بيمينك" ، فقال لا أستطيع فقال " لا استطعت " ) فما رفع يده إلى فيه بعدها فلو كان ذلك جائزا ، لما دعا عليه بفعله وإن كان كبره حمله على ترك امتثال الأمر فذلك أبلغ في العصيان واستحقاق الدعاء عليه .

( وأمر من شكوا إليه أنهم لا يشبعون أن يجتمعوا على طعامهم ولا يتفرقوا ، وأن يذكروا اسم الله عليه يبارك لهم فيه ) وصح عنه أنه قال : ( إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة يحمده عليها ، ويشرب الشربة يحمده عليها ) وروي عنه أنه قال : ( أذيبوا طعامكم بذكر الله عز وجل والصلاة ، ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم ) وأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحا والواقع في التجربة يشهد به .

التالي السابق


الخدمات العلمية