صفحة جزء
فصل فيما يقوله ويفعله من ابتلي بالوسواس ، وما يستعين به على الوسوسة

روى صالح بن كيسان ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن [ ص: 421 ] ابن مسعود يرفعه : ( إن للملك الموكل بقلب ابن آدم لمة ، وللشيطان لمة ، فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق ورجاء صالح ثوابه ، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق وقنوط من الخير ، فإذا وجدتم لمة الملك ، فاحمدوا الله وسلوه من فضله ، وإذا وجدتم لمة الشيطان فاستعيذوا بالله فاستغفروه )

وقال له عثمان بن أبي العاص : يا رسول الله ، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي ، قال : ( ذاك شيطان يقال له خنزب ، فإذا أحسسته ، فتعوذ بالله منه ، واتفل عن يسارك ثلاثا )

وشكا إليه الصحابة أن أحدهم يجد في نفسه - يعرض بالشيء - لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به فقال : ( الله أكبر ، الله أكبر ، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ) .

[ ص: 422 ] ( وأرشد من بلي بشيء من وسوسة التسلسل في الفاعلين ، إذا قيل له: هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ أن يقرأ: ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) ) [ الحديد : 3 ] .

كذلك ( قال ابن عباس لأبي زميل سماك بن الوليد الحنفي ، وقد سأله : ما شيء أجده في صدري ؟ قال : ما هو ؟ قال : قلت : والله لا أتكلم به . قال فقال لي : أشيء من شك ؟ قلت : بلى ، فقال لي : ما نجا من ذلك أحد ، حتى أنزل الله عز وجل : ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) [ يونس : 94 ] قال : فقال لي : فإذا وجدت في نفسك شيئا ، فقل: ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) )

فأرشدهم بهذه الآية إلى بطلان التسلسل الباطل ببديهة العقل ، وأن سلسلة المخلوقات في ابتدائها تنتهي إلى أول ليس قبله شيء ، كما تنتهي في آخرها إلى آخر ليس بعده شيء ، كما أن ظهوره هو العلو الذي ليس فوقه شيء ، وبطونه هو الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شيء ، ولو كان قبله شيء يكون مؤثرا فيه لكان ذلك هو الرب الخلاق ، ولا بد أن ينتهي الأمر إلى خالق غير مخلوق وغني عن غيره ، وكل شيء فقير إليه قائم بنفسه ، وكل شيء قائم به موجود بذاته ، وكل شيء موجود به . قديم لا أول له ، وكل ما سواه فوجوده بعد عدمه باق بذاته ، وبقاء كل شيء به فهو الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس بعده شيء ، الظاهر الذي ليس فوقه شيء ، الباطن الذي ليس دونه شيء .

وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يزال الناس يتساءلون حتى يقول قائلهم: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئا ، فليستعذ بالله [ ص: 423 ] ولينته ) ، وقد قال تعالى : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ) [ فصلت 36 ] .

ولما كان الشيطان على نوعين : نوع يرى عيانا ، وهو شيطان الإنس ، ونوع لا يرى ، وهو شيطان الجن ، أمر سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكتفي من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه ، والعفو ، والدفع بالتي هي أحسن ، ومن شيطان الجن بالاستعاذة بالله منه ، والعفو ، وجمع بين النوعين في سورة الأعراف ، وسورة المؤمنين ، وسورة فصلت ، والاستعاذة في القراءة والذكر أبلغ في دفع شر شياطين الجن ، والعفو والإعراض والدفع بالإحسان أبلغ في دفع شر شياطين الإنس . قال :


فما هو إلا الاستعاذة ضارعا أو الدفع بالحسنى هما خير مطلوب     فهذا دواء الداء من شر ما يرى
وذاك دواء الداء من شر محجوب



التالي السابق


الخدمات العلمية