صفحة جزء
فصل

ولما اشتد أذى المشركين على من أسلم وفتن منهم من فتن حتى يقولوا لأحدهم : اللات والعزى إلهك من دون الله ؟ فيقول : نعم ، وحتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون : وهذا إلهك من دون الله ، فيقول : نعم ، ومر عدو الله أبو جهل [ ص: 21 ] بسمية أم عمار بن ياسر وهي تعذب وزوجها وابنها ، فطعنها بحربة في فرجها حتى قتلها .

كان الصديق إذا مر بأحد من العبيد يعذب اشتراه منهم وأعتقه ، منهم : بلال ، وعامر بن فهيرة ، وأم عبيس ، وزنيرة ، والنهدية ، وابنتها ، وجارية لبني عدي كان عمر يعذبها على الإسلام قبل إسلامه ، وقال له أبوه : يا بني أراك تعتق رقابا ضعافا ، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت قوما جلدا يمنعونك ، فقال له أبو بكر : ( إني أريد ما أريد ) .

فلما اشتد البلاء أذن الله سبحانه لهم بالهجرة الأولى إلى أرض الحبشة ، وكان أول من هاجر إليها عثمان بن عفان ، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أهل هذه الهجرة الأولى اثني عشر رجلا وأربع نسوة : عثمان وامرأته ، وأبو حذيفة وامرأته سهلة بنت سهيل ، وأبو سلمة وامرأته أم سلمة هند بنت أبي أمية ، والزبير بن العوام ، ومصعب بن عمير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعثمان بن مظعون ، وعامر بن ربيعة ، وامرأته ليلى بنت أبي حثمة ، وأبو سبرة بن أبي رهم ، وحاطب بن عمرو ، وسهيل بن وهب ، وعبد الله بن مسعود .

وخرجوا متسللين سرا فوفق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين للتجار ، فحملوهم فيهما إلى أرض الحبشة ، وكان مخرجهم في رجب في السنة الخامسة من المبعث ، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر فلم يدركوا منهم أحدا ، ثم بلغهم أن قريشا قد كفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم فرجعوا ، فلما كانوا دون مكة بساعة من نهار بلغهم أن قريشا أشد ما كانوا عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل من دخل بجوار ، وفي تلك المرة دخل ابن مسعود فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة ، فلم يرد عليه ، فتعاظم ذلك على ابن مسعود حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله قد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة ) هذا هو الصواب ، وزعم ابن [ ص: 22 ] سعد وجماعة أن ابن مسعود لم يدخل وأنه رجع إلى الحبشة حتى قدم في المرة الثانية إلى المدينة مع من قدم ، ورد هذا بأن ابن مسعود شهد بدرا ، وأجهز على أبي جهل ، وأصحاب هذه الهجرة إنما قدموا المدينة مع جعفر بن أبي طالب وأصحابه بعد بدر بأربع سنين أو خمس .

قالوا : فإن قيل : بل هذا الذي ذكره ابن سعد يوافق قول زيد بن أرقم : ( كنا نتكلم في الصلاة ، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت ( وقوموا لله قانتين ) [ البقرة : 238 ] فأمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام ) ، وزيد بن أرقم من الأنصار والسورة مدنية ، وحينئذ فابن مسعود سلم عليه لما قدم وهو في الصلاة فلم يرد عليه حتى سلم ، وأعلمه بتحريم الكلام ، فاتفق حديثه وحديث ابن أرقم .

قيل : يبطل هذا شهود ابن مسعود بدرا ، وأهل الهجرة الثانية إنما قدموا عام خيبر مع جعفر وأصحابه ، ولو كان ابن مسعود ممن قدم قبل بدر لكان لقدومه ذكر ، ولم يذكر أحد قدوم مهاجري الحبشة إلا في القدمة الأولى بمكة ، والثانية عام خيبر مع جعفر ، فمتى قدم ابن مسعود في غير هاتين المرتين ومع من ؟ وبنحو [ ص: 23 ] الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق ، قال : وبلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا إلى الحبشة إسلام أهل مكة ، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك ، حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن إسلام أهل مكة كان باطلا ، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفيا . فكان ممن قدم منهم ، فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة فشهد بدرا وأحدا ، فذكر منهم عبد الله بن مسعود .

فإن قيل : فما تصنعون بحديث زيد بن أرقم ؟ قيل : قد أجيب عنه بجوابين ، أحدهما : أن يكون النهي عنه قد ثبت بمكة ثم أذن فيه بالمدينة ثم نهي عنه . والثاني : أن زيد بن أرقم كان من صغار الصحابة ، وكان هو وجماعة يتكلمون في الصلاة على عادتهم ولم يبلغهم النهي ، فلما بلغهم انتهوا ، وزيد لم يخبر عن جماعة المسلمين كلهم بأنهم كانوا يتكلمون في الصلاة إلى حين نزول هذه الآية ، ولو قدر أنه أخبر بذلك لكان وهما منه .

ثم اشتد البلاء من قريش على من قدم من مهاجري الحبشة وغيرهم ، وسطت بهم عشائرهم ، ولقوا منهم أذى شديدا ، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية ، وكان خروجهم الثاني أشق عليهم وأصعب ، ولقوا من قريش تعنيفا شديدا ونالوهم بالأذى ، وصعب عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره لهم ، وكان عدة من خرج في هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلا ، إن كان فيهم عمار بن ياسر فإنه يشك فيه ، قاله ابن إسحاق ، ومن النساء تسع عشرة امرأة .

قلت : قد ذكر في هذه الهجرة الثانية عثمان بن عفان ، وجماعة ممن شهد بدرا ، فإما أن يكون هذا وهما ، وإما أن يكون لهم قدمة أخرى قبل بدر فيكون لهم ثلاث قدمات : قدمة قبل الهجرة ، وقدمة قبل بدر ، وقدمة عام خيبر ، ولذلك قال ابن سعد وغيره : إنهم لما سمعوا مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلا ، ومن النساء ثمان نسوة ، فمات منهم رجلان بمكة ، وحبس بمكة سبعة ، وشهد بدرا منهم أربعة وعشرون رجلا .

[ ص: 24 ] فلما كان شهر ربيع الأول سنة سبع من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام ، وبعث به مع عمرو بن أمية الضمري ، فلما قرئ عليه الكتاب أسلم ، وقال لئن قدرت أن آتيه لآتينه .

وكتب إليه أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت فيمن هاجر إلى أرض الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش ، فتنصر هناك ومات ، فزوجه النجاشي إياها وأصدقها عنه أربعمائة دينار ، وكان الذي ولي تزويجها خالد بن سعيد بن العاص .

وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه من بقي عنده من أصحابه ويحملهم ، ففعل وحملهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري ، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فوجدوه قد فتحها ، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يدخلوهم في سهامهم ففعلوا .

[ ص: 25 ] وعلى هذا فيزول الإشكال الذي بين حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم ، ويكون ابن مسعود قدم في المرة الوسطى بعد الهجرة قبل بدر إلى المدينة ، وسلم عليه حينئذ فلم يرد عليه ، وكان العهد حديثا بتحريم الكلام كما قال زيد بن أرقم ، ويكون تحريم الكلام بالمدينة لا بمكة ، وهذا أنسب بالنسخ الذي وقع في الصلاة ، والتغيير بعد الهجرة ، كجعلها أربعا بعد أن كانت ركعتين ، ووجوب الاجتماع لها .

فإن قيل : ما أحسنه من جمع وأثبته لولا أن محمد بن إسحاق قد قال : ما حكيتم عنه أن ابن مسعود أقام بمكة بعد رجوعه من الحبشة حتى هاجر إلى المدينة وشهد بدرا ، وهذا يدفع ما ذكر .

قيل : إن كان محمد بن إسحاق قد قال هذا فقد قال محمد بن سعد في " طبقاته " : إن ابن مسعود مكث يسيرا بعد مقدمه ثم رجع إلى أرض الحبشة ، وهذا هو الأظهر ؛ لأن ابن مسعود لم يكن له بمكة من يحميه ، وما حكاه ابن سعد قد تضمن زيادة أمر خفي على ابن إسحاق ، وابن إسحاق لم يذكر من حدثه ، ومحمد بن سعد أسند ما حكاه إلى المطلب بن عبد الله بن حنطب ، فاتفقت الأحاديث ، وصدق بعضها بعضا ، وزال عنها الإشكال ، ولله الحمد والمنة .

وقد ذكر ابن إسحاق في هذه الهجرة إلى الحبشة أبا موسى الأشعري عبد الله بن قيس ، وقد أنكر عليه ذلك أهل السير ، منهم : محمد بن عمر الواقدي ، وغيره ، وقالوا : كيف يخفى ذلك على ابن إسحاق أو على من دونه ؟ .

قلت : وليس ذلك مما يخفى على من دون محمد بن إسحاق فضلا عنه ، وإنما نشأ الوهم أن أبا موسى هاجر من اليمن إلى أرض الحبشة إلى عند جعفر وأصحابه لما سمع بهم ، ثم قدم معهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ، كما جاء مصرحا به في " الصحيح " فعد ذلك ابن إسحاق لأبي موسى هجرة ، ولم يقل : إنه هاجر من مكة إلى أرض الحبشة لينكر عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية