صفحة جزء
واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح ، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر ، وكانت معركة ، وتراموا بالنبل والحجارة ، وصاح الفريقان كلاهما ، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم ، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل ، فدعا إلى البيعة ، فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه على ألا يفروا ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه وقال : ( هذه عن عثمان )

ولما تمت البيعة رجع عثمان فقال له المسلمون : اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت ؟ فقال : ( بئس ما ظننتم بي ، والذي نفسي بيده لو مكثت بها سنة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت ) . فقال المسلمون : رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلمنا بالله وأحسننا ظنا ، ( وكان عمر آخذا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة تحت الشجرة ، فبايعه المسلمون كلهم إلا الجد بن قيس ) .

( وكان معقل بن يسار آخذا بغصنها يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان [ ص: 260 ] أول من بايعه أبو سنان الأسدي )

وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات في أول الناس وأوسطهم وآخرهم .

فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل : ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنا لم نجئ لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم ، فإن شاءوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس ، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا ، وإن هم أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره )

قال بديل : سأبلغهم ما تقول . فانطلق حتى أتى قريشا فقال : إني قد جئتكم من عند هذا الرجل ، وقد سمعته يقول قولا ، فإن شئتم عرضته عليكم . فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء . وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته . قال : سمعته يقول كذا وكذا . فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم . فقال عروة بن مسعود الثقفي : إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته . فقالوا : ائته . فأتاه فجعل يكلمه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل ، فقال له عروة عند ذلك : أي محمد ، أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأرى أوشابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك . فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟! قال : من ذا ؟ قالوا : أبو بكر . قال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك . وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وكلما [ ص: 261 ] كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم . فرفع عروة رأسه وقال : من ذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة . فقال : أي غدر ، أولست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء )

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه ، فوالله ما تنخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها جلده ووجهه ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيما له ، فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك على كسرى وقيصر والنجاشي ، والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيما له ، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته . فقالوا : ائته . فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن ، فابعثوها له . فبعثوها له ، واستقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ) فرجع إلى أصحابه فقال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت وما أرى أن يصدوا عن البيت . فقام مكرز بن حفص فقال : دعوني آته . فقالوا : ائته . فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر ) . فجعل يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبينا هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قد سهل لكم من أمركم ) فقال : هات اكتب بيننا وبينكم كتابا . فدعا الكاتب فقال : " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " . فقال [ ص: 262 ] سهيل : أما الرحمن فوالله ما ندري ما هو ، ولكن اكتب : باسمك اللهم كما كنت تكتب . فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اكتب : باسمك اللهم " . ثم قال : اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ) . فقال سهيل : فوالله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني رسول الله ، وإن كذبتموني ، اكتب : محمد بن عبد الله ) . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به . فقال سهيل والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ، ولكن ذلك من العام المقبل . فكتب ، فقال سهيل : على أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا . فقال المسلمون : سبحان الله ، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟! بينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا لم نقض الكتاب بعد . فقال : فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فأجزه لي . قال : ما أنا بمجيزه لك . قال : بلى فافعل . قال : ما أنا بفاعل . قال مكرز : بلى قد أجزناه ، فقال أبو جندل : يا معشر المسلمين ، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ، ألا ترون ما لقيت ؟! وكان قد عذب في الله عذابا شديدا .

قال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، ألست نبي الله حقا ؟ قال : بلى . قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى . فقلت : علام نعطي الدنية في ديننا إذا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال : ( إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه ) . قلت : أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا . قال : فإنك آتيه ومطوف به . قال فأتيت أبا بكر فقلت له كما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد علي أبو بكر كما رد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء ، وزاد : فاستمسك بغرزه حتى تموت فوالله إنه لعلى [ ص: 263 ] الحق . قال عمر : فعملت لذلك أعمالا .

فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قوموا فانحروا ثم احلقوا ) . فوالله ما قام منهم رجل واحد حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت أم سلمة : يا رسول الله ، أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك . فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك : نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ، ثم جاءه نسوة مؤمنات ، فأنزل الله عز وجل : ( ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ) ، حتى بلغ ( بعصم الكوافر ) [ الممتحنة 10 ] ، فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية والأخرى صفوان بن أمية ، ثم رجع إلى المدينة ، وفي مرجعه أنزل الله عليه : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا ) [ الفتح 1 - 3 ] فقال عمر : أوفتح هو يا رسول الله ؟ قال : نعم . فقال الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ، فما لنا ؟ فأنزل الله عز وجل : ( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين
) [ الفتح : 4 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية