صفحة جزء
فصل

وفيها : أن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تكفر بالحسنة الكبيرة الماحية ، كما وقع الجس من حاطب مكفرا بشهوده بدرا ، فإن ما اشتملت عليه هذه الحسنة العظيمة من المصلحة وتضمنته من محبة الله لها ورضاه بها وفرحه بها ومباهاته للملائكة بفاعلها ، أعظم مما اشتملت عليه سيئة الجس من المفسدة وتضمنته من بغض الله لها ، فغلب الأقوى على الأضعف فأزاله [ ص: 373 ] وأبطل مقتضاه ، وهذه حكمة الله في الصحة والمرض الناشئين من الحسنات والسيئات ، الموجبين لصحة القلب ومرضه ، وهي نظير حكمته تعالى في الصحة والمرض اللاحقين للبدن ، فإن الأقوى منهما يقهر المغلوب ويصير الحكم له ، حتى يذهب أثر الأضعف ، فهذه حكمته في خلقه وقضائه وتلك حكمته في شرعه وأمره .

وهذا كما أنه ثابت في محو السيئات بالحسنات لقوله تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) [ هود : 14 ] ، وقوله تعالى : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) [ النساء : 31 ] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " وأتبع السيئة الحسنة تمحها " فهو ثابت في عكسه ، لقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) [ البقرة : 264 ] ، وقوله ( ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) [ الحجرات : 2 ] . وقول عائشة عن زيد بن أرقم أنه لما باع بالعينة : "إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب " ، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه البخاري في " صحيحه " :" من ترك صلاة العصر حبط [ ص: 374 ] عمله " إلى غير ذلك من النصوص والآثار الدالة على تدافع الحسنات والسيئات وإبطال بعضها بعضا ، وذهاب أثر القوي منها بما دونه ، وعلى هذا مبنى الموازنة والإحباط .

وبالجملة فقوة الإحسان ومرض العصيان متصاولان ومتحاربان ، ولهذا المرض مع هذه القوة حالة تزايد وترام إلى الهلاك ، وحالة انحطاط وتناقص ، وهي خير حالات المريض ، وحالة وقوف وتقابل إلى أن يقهر أحدهما الآخر ، وإذا دخل وقت البحران وهو ساعة المناجزة فحظ القلب أحد الخطتين ، إما السلامة ، وإما العطب ، وهذا البحران يكون وقت فعل الواجبات التي توجب رضى الرب تعالى ومغفرته ، أو توجب سخطه وعقوبته ، وفي الدعاء النبوي : " أسألك موجبات رحمتك " وقال عن طلحة يومئذ : " أوجب طلحة " ورفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل وقالوا : يا رسول الله إنه قد أوجب فقال : "أعتقوا عنه " .

وفي الحديث الصحيح " أتدرون ما الموجبتان ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار " ، [ ص: 375 ] يريد أن التوحيد والشرك رأس الموجبات وأصلها ، فهما بمنزلة السم القاتل قطعا ، والترياق المنجي قطعا .

وكما أن البدن قد تعرض له أسباب رديئة لازمة توهن قوته وتضعفها ، فلا ينتفع معها بالأسباب الصالحة والأغذية النافعة ، بل تحيلها تلك المواد الفاسدة إلى طبعها وقوتها ، فلا يزداد بها إلا مرضا ، وقد تقوم به مواد صالحة وأسباب موافقة توجب قوته وتمكنه من الصحة وأسبابها ، فلا تكاد تضره الأسباب الفاسدة ، بل تحيلها تلك المواد الفاضلة إلى طبعها ، فهكذا مواد صحة القلب وفساده .

فتأمل قوة إيمان حاطب التي حملته على شهود بدر ، وبذله نفسه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيثاره الله ورسوله على قومه وعشيرته وقرابته وهم بين ظهراني العدو وفي بلدهم ، ولم يثن ذلك عنان عزمه ، ولا فل من حد إيمانه ومواجهته للقتال لمن أهله وعشيرته وأقاربه عندهم ، فلما جاء مرض الجس برزت إليه هذه القوة ، وكان البحران صالحا فاندفع المرض ، وقام المريض كأن لم يكن به قلبة ، ولما رأى الطبيب قوة إيمانه قد استعلت على مرض جسه وقهرته ، قال لمن أراد فصده : لا يحتاج هذا العارض إلى فصاد ، "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " وعكس هذا ذو الخويصرة التميمي وأضرابه من الخوارج الذين بلغ اجتهادهم في الصلاة والصيام والقراءة إلى حد يحقر أحد الصحابة عمله معه كيف قال فيهم : " لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد " وقال : " اقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم " . وقال : " شر قتلى تحت أديم السماء " فلم ينتفعوا بتلك الأعمال العظيمة مع تلك المواد الفاسدة المهلكة واستحالت فاسدة .

[ ص: 376 ] وتأمل في حال إبليس لما كانت المادة المهلكة كامنة في نفسه ، لم ينتفع معها بما سلف من طاعاته ، ورجع إلى شاكلته وما هو أولى به ، وكذلك الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ، وأضرابه وأشكاله ، فالمعول على السرائر ، والمقاصد ، والنيات ، والهمم ، فهي الإكسير الذي يقلب نحاس الأعمال ذهبا ، أو يردها خبثا ، وبالله التوفيق .

ومن له لب وعقل يعلم قدر هذه المسألة وشدة حاجته إليها وانتفاعه بها ، ويطلع منها على باب عظيم من أبواب معرفة الله سبحانه وحكمته في خلقه وأمره وثوابه وعقابه وأحكام الموازنة ، وإيصال اللذة والألم إلى الروح والبدن في المعاش والمعاد ، وتفاوت المراتب في ذلك بأسباب مقتضية بالغة ممن هو قائم على كل نفس بما كسبت .

التالي السابق


الخدمات العلمية