فصل 
فإذا كانت مكة  قد فتحت عنوة ، فهل يضرب الخراج على مزارعها كسائر أرض العنوة ، وهل يجوز لكم أن تفعلوا ذلك أم لا ؟ قيل في هذه المسألة قولان لأصحاب العنوة : 
أحدهما : المنصوص المنصور الذي لا يجوز القول بغيره ، أنه لا خراج على مزارعها وإن فتحت عنوة ، فإنها أجل وأعظم من أن يضرب عليها الخراج ، لا سيما والخراج هو جزية الأرض ، وهو على الأرض كالجزية على الرءوس ، وحرم الرب أجل قدرا وأكبر من أن تضرب عليه جزية ، 
ومكة  بفتحها عادت إلى ما  
[ ص: 386 ] وضعها الله عليه من كونها حرما آمنا يشترك فيه أهل الإسلام ، إذ هو موضع مناسكهم ومتعبدهم وقبلة أهل الأرض . 
والثاني - وهو قول بعض أصحاب 
أحمد   - أن على مزارعها الخراج ، كما هو على مزارع غيرها من أرض العنوة ، وهذا فاسد مخالف لنص 
أحمد  رحمه الله ومذهبه ، ولفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين من بعده رضي الله عنهم ، فلا التفات إليه ، والله أعلم . 
وقد بنى بعض الأصحاب تحريم 
بيع رباع مكة على كونها فتحت عنوة ، وهذا بناء غير صحيح ، فإن مساكن أرض العنوة تباع قولا واحدا ، فظهر بطلان هذا البناء والله أعلم . 
وفيها : تعيين قتل الساب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن قتله حد لا بد من استيفائه ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمن 
مقيس بن صبابة  ، 
وابن خطل  ، والجاريتين اللتين كانتا تغنيان بهجائه ، مع أن نساء أهل الحرب لا يقتلن كما لا تقتل الذرية ، وقد أمر بقتل هاتين الجاريتين ( 
وأهدر دم أم ولد الأعمى لما قتلها سيدها لأجل سبها النبي - صلى الله عليه وسلم -  ) وقتل 
كعب بن الأشرف  اليهودي ، وقال : ( 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002162من لكعب  فإنه قد آذى الله ورسوله "  ) وكان يسبه ، وهذا إجماع من الخلفاء الراشدين ، ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف ، فإن 
 nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق   - رضي الله عنه - قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=88لأبي برزة الأسلمي  وقد هم بقتل من سبه : ( لم يكن هذا لأحد غير رسول الله  ) - صلى الله عليه وسلم - ، ومر 
عمر   - رضي الله عنه - براهب فقيل له : هذا يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال : ( لو سمعته لقتلته ، إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا - صلى الله عليه وسلم - )  .  
[ ص: 387 ] ولا ريب أن المحاربة بسب نبينا أعظم أذية ونكاية لنا من المحاربة باليد ، ومنع دينار جزية في السنة ، فكيف ينقض عهده ويقتل بذلك دون السب ، وأي نسبة لمفسدة منعه دينارا في السنة إلى مفسدة منع مجاهرته بسب نبينا أقبح سب على رءوس الأشهاد ، بل لا نسبة لمفسدة محاربته باليد إلى مفسدة محاربته بالسب ، فأولى ما انتقض به عهده وأمانه سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا ينتقض عهده بشيء أعظم منه إلا سبه الخالق سبحانه ، فهذا محض القياس ، ومقتضى النصوص ، وإجماع الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - وعلى هذه المسألة أكثر من أربعين دليلا . 
فإن قيل : فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل 
عبد الله بن أبي  ، وقد قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، ولم يقتل 
ذا الخويصرة التميمي  ، وقد قال له : اعدل فإنك لم تعدل ، ولم يقتل من قال له : يقولون إنك تنهى عن الغي ، وتستخلي به ، ولم يقتل القائل له : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله ، ولم يقتل من قال له لما حكم للزبير بتقديمه في السقي : أن كان ابن عمتك ، وغير هؤلاء ممن كان يبلغه عنهم أذى له وتنقص . 
قيل : الحق كان له فله أن يستوفيه ، وله أن يسقطه ، وليس لمن بعده أن يسقط حقه ، كما أن الرب تعالى له أن يستوفي حقه ، وله أن يسقط ، وليس لأحد أن يسقط حقه تعالى بعد وجوبه ، كيف وقد كان في ترك قتل من ذكرتم وغيرهم مصالح عظيمة في حياته ، زالت بعد موته ، من تأليف الناس ، وعدم تنفيرهم عنه ، فإنه لو بلغهم أنه يقتل أصحابه لنفروا ، وقد أشار إلى هذا بعينه ، وقال 
لعمر  لما أشار عليه بقتل 
عبد الله بن أبي   : ( 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16002163لا يبلغ الناس أن محمدا  يقتل أصحابه  ) .  
[ ص: 388 ] ولا ريب أن مصلحة هذا التأليف ، وجمع القلوب عليه ، كانت أعظم عنده وأحب إليه من المصلحة الحاصلة بقتل من سبه وآذاه ، ولهذا لما ظهرت مصلحة القتل ، وترجحت جدا قتل الساب كما فعل 
بكعب بن الأشرف  ، فإنه جاهر بالعداوة والسب ، فكان قتله أرجح من إبقائه ، وكذلك قتل 
ابن خطل  ، 
ومقيس  والجاريتين وأم ولد الأعمى ، فقتل للمصلحة الراجحة وكف للمصلحة الراجحة ، فإذا صار الأمر إلى نوابه وخلفائه لم يكن لهم أن يسقطوا حقه .