صفحة جزء
فصل

ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا يعضد بها شجر ) ، وفي اللفظ الآخر : ( ولا يعضد شوكها ) ، وفي لفظ في " صحيح مسلم " : ( ولا يخبط شوكها ) لا خلاف بينهم أن الشجر البري الذي لم ينبته الآدمي على اختلاف أنواعه مراد من هذا اللفظ ، واختلفوا فيما أنبته الآدمي من الشجر في الحرم على ثلاثة أقوال ، وهي في مذهب أحمد :

أحدها : أن له قلعه ، ولا ضمان عليه ، وهذا اختيار ابن عقيل ، وأبي الخطاب ، وغيرهما .

والثاني : أنه ليس له قلعه ، وإن فعل ففيه الجزاء بكل حال ، وهو قول [ ص: 395 ] الشافعي ، وهو الذي ذكره ابن البناء في " خصاله " .

الثالث : الفرق بين ما أنبته في الحل ثم غرسه في الحرم ، وبين ما أنبته في الحرم أولا ، فالأول : لا جزاء فيه ، والثاني : لا يقلع وفيه الجزاء بكل حال ، وهذا قول القاضي .

وفيه قول رابع : وهو الفرق بين ما ينبت الآدمي جنسه كاللوز والجوز والنخل ونحوه ، وما لا ينبت الآدمي جنسه كالدوح والسلم ونحوه ، فالأول يجوز قلعه ، ولا جزاء فيه ، والثاني : لا يجوز ، وفيه الجزاء .

قال صاحب " المغني " : والأولى الأخذ بعموم الحديث في تحريم الشجر كله ، إلا ما أنبت الآدمي من جنس شجرهم بالقياس على ما أنبتوه من الزرع والأهلي من الحيوان ، فإننا إنما أخرجنا من الصيد ما كان أصله إنسيا دون ما تأنس من الوحشي ، كذا هاهنا ، وهذا تصريح منه باختيار هذا القول الرابع ، فصار في مذهب أحمد أربعة أقوال .

والحديث ظاهر جدا في تحريم قطع الشوك والعوسج ، وقال الشافعي : لا يحرم قطعه ؛ لأنه يؤذي الناس بطبعه ، فأشبه السباع ، وهذا اختيار أبي الخطاب وابن عقيل ، وهو مروي عن عطاء ومجاهد وغيرهما . وقوله - صلى الله عليه وسلم - ( لا يعضد شوكها ) وفي اللفظ الآخر : ( لا يختلى شوكها ) صريح في المنع ، ولا يصح قياسه على السباع العادية ، فإن تلك تقصد بطبعها الأذى ، وهذا لا يؤذي من لم يدن منه .

والحديث لم يفرق بين الأخضر واليابس ، ولكن قد جوزوا قطع اليابس ، قالوا : لأنه بمنزلة الميت ، ولا يعرف فيه خلاف ، وعلى هذا فسياق الحديث يدل على أنه إنما أراد الأخضر ، فإنه جعله بمنزلة تنفير الصيد ، وليس في أخذ اليابس انتهاك حرمة الشجرة الخضراء التي تسبح بحمد ربها ، ولهذا غرس النبي - صلى الله عليه وسلم - على [ ص: 396 ] القبرين غصنين أخضرين ، وقال : ( لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ) .

وفي الحديث دليل على أنه إذا انقلعت الشجرة بنفسها ، أو انكسر الغصن جاز الانتفاع به ؛ لأنه لم يعضده هو ، وهذا لا نزاع فيه .

فإن قيل : فما تقولون فيما إذا قلعها قالع ثم تركها ، فهل يجوز له أو لغيره أن ينتفع بها ؟ قيل : قد سئل الإمام أحمد عن هذه المسألة فقال : من شبهه بالصيد لم ينتفع بحطبها ، وقال لم أسمع إذا قطعه ينتفع به .

وفيه وجه آخر ، أنه يجوز لغير القاطع الانتفاع به ؛ لأنه قطع بغير فعله فأبيح له الانتفاع به ، كما لو قلعته الريح ، وهذا بخلاف الصيد إذا قتله محرم ، حيث يحرم على غيره ، فإن قتل المحرم له جعله ميتة .

وقوله في اللفظ الآخر : ( ولا يخبط شوكها ) صريح أو كالصريح في تحريم قطع الورق ، وهذا مذهب أحمد - رحمه الله - وقال الشافعي : له أخذه ، ويروى عن عطاء ، والأول أصح لظاهر النص والقياس ، فإن منزلته من الشجرة منزلة ريش الطائر منه ، وأيضا فإن أخذ الورق ذريعة إلى يبس الأغصان ، فإنه لباسها ووقايتها .

التالي السابق


الخدمات العلمية