صفحة جزء
[ ص: 399 ] فصل

وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة : ( ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يقتل وإما أن يأخذ الدية ) فيه دليل على أن الواجب بقتل العمد لا يتعين في القصاص ، بل هو أحد شيئين ، إما القصاص وإما الدية .

وفي ذلك ثلاثة أقوال : وهي روايات عن الإمام أحمد .

أحدها : أن الواجب أحد شيئين ، إما القصاص ، وإما الدية ، والخيرة في ذلك إلى الولي بين أربعة أشياء : العفو مجانا ، والعفو إلى الدية ، والقصاص ، ولا خلاف في تخييره بين هذه الثلاثة . والرابع : المصالحة على أكثر من الدية فيه وجهان : أشهرهما مذهبا : جوازه . والثاني : ليس له العفو على مال إلا الدية أو دونها ، وهذا أرجح دليلا ، فإن اختار الدية سقط القود ولم يملك طلبه بعد ، وهذا مذهب الشافعي ، وإحدى الروايتين عن مالك .

والقول الثاني : أن موجبه القود عينا ، وأنه ليس له أن يعفو إلى الدية إلا برضى الجاني ، فإن عدل إلى الدية ولم يرض الجاني فقوده بحاله ، وهذا مذهب مالك في الرواية الأخرى وأبي حنيفة .

والقول الثالث : أن موجبه القود عينا مع التخيير بينه وبين الدية وإن لم يرض الجاني ، فإذا عفا عن القصاص إلى الدية فرضي الجاني فلا إشكال ، وإن لم يرض فله العود إلى القصاص عينا ، فإن عفا عن القود مطلقا ، فإن قلنا : الواجب أحد الشيئين فله الدية ، وإن قلنا : الواجب القصاص عينا ، سقط حقه منها .

فإن قيل : فما تقولون فيما لو مات القاتل ؟ قلنا : في ذلك قولان . أحدهما : تسقط الدية ، وهو مذهب أبي حنيفة ، لأن الواجب عندهم القصاص عينا ، وقد زال محل استيفائه بفعل الله تعالى ، فأشبه ما لو مات العبد الجاني ، فإن أرش الجناية لا ينتقل إلى ذمة السيد ، وهذا بخلاف تلف الرهن وموت الضامن حيث [ ص: 400 ] لا يسقط الحق لثبوته في ذمة الراهن والمضمون عنه ، فلم يسقط بتلف الوثيقة .

وقال الشافعي وأحمد : تتعين الدية في تركته ، لأنه تعذر استيفاء القصاص من غير إسقاط ، فوجب الدية لئلا يذهب الورثة من الدم والدية مجانا . فإن قيل : فما تقولون لو اختار القصاص ، ثم اختار بعده العفو إلى الدية هل له ذلك ؟ قلنا : هذا فيه وجهان أحدهما : أن له ذلك ؛ لأن القصاص أعلى ، فكان له الانتقال إلى الأدنى . والثاني : ليس له ذلك ؛ لأنه لما اختار القصاص فقد أسقط الدية باختياره له ، فليس له أن يعود إليها بعد إسقاطها .

فإن قيل : فكيف تجمعون بين هذا الحديث وبين قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من قتل عمدا ، فهو قود ) .

قيل : لا تعارض بينهما بوجه ، فإن هذا يدل على وجوب القود بقتل العمد ، وقوله : " فهو بخير النظرين " ، يدل على تخييره بين استيفاء هذا الواجب له ، وبين أخذ بدله وهو الدية ، فأي تعارض ؟ وهذا الحديث نظير قوله تعالى : ( كتب عليكم القصاص ) [ البقرة : 178 ] ، وهذا لا ينفي تخيير المستحق له بين ما كتب له ، وبين بدله . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية