صفحة جزء
فصل

في غزوة حنين وتسمى غزوة أوطاس

وهما موضعان بين مكة والطائف ، فسميت الغزوة باسم مكانها ، وتسمى غزوة هوازن ، لأنهم الذين أتوا لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قال ابن إسحاق : ولما سمعت هوازن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وما فتح الله عليه من مكة ، جمعها مالك بن عوف النصري ، واجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها ، واجتمعت إليه مضر وجشم كلها ، وسعد بن بكر ، وناس من بني هلال ، وهم قليل ، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء ، ولم يحضرها من هوازن كعب ، ولا [ ص: 409 ] كلاب ، وفي جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ، ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب ، وكان شجاعا مجربا ، وفي ثقيف سيدان لهم ، وفي الأحلاف قارب بن الأسود ، وفي بني مالك سبيع بن الحارث وأخوه أحمر بن الحارث ، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري ، فلما أجمع السير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم ، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس ، وفيهم دريد بن الصمة ، فلما نزل قال : بأي واد أنتم ؟ قالوا : بأوطاس . قال : نعم مجال الخيل لا حزن ضرس ولا سهل دهس ، ما لي أسمع رغاء البعير ، ونهاق الحمير ، وبكاء الصبي ، ويعار الشاء ؟ قالوا : ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم . قال : أين مالك ؟ قيل هذا مالك ، ودعي له . قال يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك ، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام ، ما لي أسمع رغاء البعير ، ونهاق الحمير ، وبكاء الصغير ، ويعار الشاء ؟ ، قال : سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم . قال : ولم ؟ قال : أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم . فقال : راعي ضأن والله ، وهل يرد المنهزم شيء ، إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك ، ثم قال : ما فعلت كعب وكلاب ؟ قالوا : لم يشهدها أحد منهم .

قال : غاب الحد والجد ، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب ولا كلاب ، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب ، فمن شهدها منكم ؟ قالوا : عمرو بن عامر ، وعوف بن عامر ؟ قال : ذانك الجذعان من عامر ، لا ينفعان ولا يضران . يا مالك : إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن [ ص: 410 ] إلى نحور الخيل شيئا ، ارفعهم إلى متمنع بلادهم ، وعليا قومهم ، ثم الق الصباة على متون الخيل ، فإن كانت لك لحق بك من وراءك ، إن كانت عليك ألفاك ذلك ، وقد أحرزت أهلك ومالك . قال : والله لا أفعل ، إنك قد كبرت ، وكبر عقلك ، والله لتطيعنني يا معشر هوازن ، أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري ، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر ورأي ، فقالوا : أطعناك ، فقال دريد : هذا يوم لم أشهده ولم يفتني .


يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع     أقود وطفاء الزمع
كأنها شاة صدع



ثم قال مالك للناس : إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ، ثم شدوا شدة رجل واحد ، وبعث عيونا من رجاله فأتوه ، وقد تفرقت أوصالهم ، قال : ويلكم ما شأنكم ؟ قالوا : رأينا رجالا بيضا على خيل بلق ، والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى ، فوالله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد .

ولما سمع بهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي ، وأمره أن يدخل في الناس ، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ، ثم يأتيه بخبرهم ، فانطلق ابن أبي حدرد فدخل فيهم حتى سمع وعلم ما قد جمعوا له من حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه ، ثم أقبل حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر .

فلما أجمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السير إلى هوازن ، ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا وسلاحا ، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك ، فقال : ( يا أبا أمية أعرنا سلاحك [ ص: 411 ] هذا نلقى فيه عدونا غدا ، فقال صفوان : أغصبا يا محمد ؟ قال : " بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك " ، فقال : ليس بهذا بأس ، فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح ، فزعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأله أن يكفيهم حملها ، ففعل ) .

ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه ألفان من أهل مكة ، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ، ففتح الله بهم مكة ، وكانوا اثني عشر ألفا ، واستعمل عتاب بن أسيد على مكة أميرا ، ثم مضى يريد لقاء هوازن .

قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الرحمن بن جابر ، عن أبيه جابر بن عبد الله ، قال : لما استقبلنا وادي حنين ، انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط ، إنما ننحدر فيه انحدارا . قال : وفي عماية الصبح ، وكان القوم سبقونا إلى الوادي ، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه قد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا ، فوالله ما راعنا - ونحن منحطون - إلا الكتائب ، قد شدوا علينا شدة رجل واحد ، وانشمر الناس راجعين ، لا يلوي أحد منهم على أحد ، وانحاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات اليمين ، ثم قال : ( إلى أين أيها الناس ؟ هلم إلي ، أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبد الله ) وبقي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته ، وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر ، ومن أهل بيته علي والعباس ، وأبو سفيان بن الحارث وابنه ، والفضل بن العباس ، وربيعة بن الحارث ، وأسامة بن زيد ، وأيمن ابن أم أيمن ، وقتل يومئذ .

قال : ورجل من هوازن على جمل له أحمر ، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل أمام هوازن ، وهوازن خلفه إذا أدرك طعن برمحه ، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه ، فبينا هو كذلك [ ص: 412 ] إذ أهوى عليه علي بن أبي طالب ورجل من الأنصار يريدانه ، قال : فأتى علي من خلفه ، فضرب عرقوبي الجمل ، فوقع على عجزه ، ووثب الأنصاري على الرجل ، فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه ، فانجعف عن رحله ، قال : فاجتلد الناس . قال : فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قال ابن إسحاق : ولما انهزم المسلمون ورأى من كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جفاة أهل مكة الهزيمة ، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن ، فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، وإن الأزلام لمعه في كنانته ، وصرخ جبلة بن الحنبل - وقال ابن هشام : صوابه كلدة - ألا بطل السحر اليوم ، فقال له صفوان أخوه لأمه وكان بعد مشركا : اسكت فض الله فاك ، فوالله لأن يربني رجل من قريش ، أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن .

وذكر ابن سعد عن شيبة بن عثمان الحجبي ، قال : لما كان عام الفتح ، دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة عنوة ، قلت : أسير مع قريش إلى هوازن بحنين ، فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرة فأثأر منه ، فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها ، وأقول : لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدا ، ما تبعته أبدا ، وكنت مرصدا لما خرجت له لا يزداد الأمر في نفسي إلا قوة ، فلما اختلط الناس اقتحم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بغلته فأصلت السيف ، فدنوت أريد ما أريد منه ، ورفعت سيفي حتى كدت أشعره إياه ، فرفع لي شواظ من نار كالبرق كاد يمحشني ، فوضعت يدي على بصري خوفا عليه ، فالتفت إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فناداني : ( يا شيب ادن مني " فدنوت منه فمسح صدري ، ثم قال : " اللهم أعذه من الشيطان " قال : فوالله لهو كان ساعتئذ أحب إلي من [ ص: 413 ] سمعي وبصري ونفسي ، وأذهب الله ما كان في نفسي ، ثم قال " ادن فقاتل ) فتقدمت أمامه أضرب بسيفي ، الله يعلم أني أحب أن أقيه بنفسي كل شيء ، ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كان حيا ، لأوقعت به السيف ، فجعلت ألزمه فيمن لزمه ، حتى تراجع المسلمون ، فكروا كرة رجل واحد ، وقربت بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستوى عليها ، وخرج في أثرهم حتى تفرقوا في كل وجه ، ورجع إلى معسكره فدخل خباءه ، فدخلت عليه ما دخل عليه أحد غيري حبا لرؤية وجهه ، وسرورا به ، فقال : ( يا شيب الذي أراد الله بك خير مما أردت لنفسك " ، ثم حدثني بكل ما أضمرت في نفسي ما لم أكن أذكره لأحد قط ، قال فقلت : فإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قلت : استغفر لي . فقال " غفر الله لك ) .

وقال ابن إسحاق : وحدثني الزهري ، عن كثير بن العباس ، عن أبيه العباس بن عبد المطلب ، قال : إني لمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخذ بحكمة بغلته البيضاء قد شجرتها بها ، وكنت امرءا جسيما ، شديد الصوت ، قال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حين رأى ما رأى من الناس : ( إلى أين أيها الناس ؟ " قال : فلم أر الناس يلوون على شيء ، فقال : " يا عباس اصرخ يا معشر الأنصار ، يا معشر أصحاب السمرة " ، فأجابوا : لبيك لبيك ) قال : فيذهب الرجل ليثني بعيره ، فلا يقدر على ذلك ، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ، ويأخذ سيفه وقوسه وترسه ، ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله ويؤم الصوت ، حتى ينتهي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة ، استقبلوا الناس ، فاقتتلوا ، فكانت الدعوة أول ما كانت : يا للأنصار ، ثم خلصت آخرا : يا للخزرج ، وكانوا صبرا عند الحرب ، فأشرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ركائبه ، فنظر إلى مجتلد القوم ، وهم يجتلدون فقال : ( الآن حمي الوطيس ) وزاد غيره .

[ ص: 414 ]

أنا النبي لا كذب     أنا ابن عبد المطلب



وفي " صحيح مسلم " : ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصيات فرمى بها في وجوه الكفار ، ثم قال : ( انهزموا ورب محمد ) فما هو إلا أن رماهم ، فما زلت أرى حدهم كليلا ، وأمرهم مدبرا .

وفي لفظ له : إنه نزل عن البغلة ، ثم قبض قبضة من تراب الأرض ، ثم استقبل بها وجوههم ، وقال : ( شاهت الوجوه ) ، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة ، فولوا مدبرين .

وذكر ابن إسحاق عن جبير بن مطعم ، قال : لقد رأيت - قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون يوم حنين - مثل البجاد الأسود ، أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم ، فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي ، فلم يكن إلا هزيمة القوم ، فلم أشك أنها الملائكة .

قال ابن إسحاق : ولما انهزم المشركون أتوا الطائف ، ومعهم مالك بن عوف ، وعسكر بعضهم بأوطاس ، وتوجه بعضهم نحو نخلة ، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعري ، فأدرك من الناس بعض من انهزم فناوشوه القتال ، فرمي بسهم فقتل ، فأخذ الراية أبو موسى الأشعري ، وهو ابن أخيه ، فقاتلهم ففتح الله عليه فهزمهم الله ، وقتل قاتل أبي عامر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( اللهم اغفر لعبيد أبي عامر وأهله ، واجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك ) ، واستغفر لأبي موسى .

[ ص: 415 ] ومضى مالك بن عوف حتى تحصن بحصن ثقيف ، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسبي والغنائم أن تجمع ، فجمع ذلك كله ، ووجهوه إلى الجعرانة ، وكان السبي ستة آلاف رأس ، والإبل أربعة وعشرين ألفا ، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة ، وأربعة آلاف أوقية فضة ، فاستأنى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقدموا عليه مسلمين بضع عشرة ليلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية