صفحة جزء
فصل

ثم كان يكبر ويخر ساجدا ولا يرفع يديه ، وقد روي عنه أنه كان يرفعهما أيضا ، وصححه بعض الحفاظ كأبي محمد بن حزم رحمه الله وهو وهم ، فلا يصح ذلك عنه البتة ، والذي غره أن الراوي غلط من قوله : ( كان يكبر في كل خفض ورفع ، إلى قوله : كان يرفع يديه عند كل خفض ورفع ) وهو ثقة ، ولم يفطن لسبب غلط الراوي ووهمه فصححه . والله أعلم .

( وكان صلى الله عليه وسلم يضع ركبتيه قبل يديه ، ثم يديه بعدهما ، ثم جبهته وأنفه ) هذا هو الصحيح الذي رواه شريك ، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه ، عن وائل بن حجر : ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه ، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه ) [ ص: 216 ] ولم يرو في فعله ما يخالف ذلك .

وأما حديث أبي هريرة يرفعه ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ، وليضع يديه قبل ركبتيه ) فالحديث - والله أعلم - قد وقع فيه وهم من بعض [ ص: 217 ] الرواة ، فإن أوله يخالف آخره ، فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير ، فإن البعير إنما يضع يديه أولا ، ولما علم أصحاب هذا القول ذلك قالوا : ركبتا البعير في يديه ، لا في رجليه ، فهو إذا برك وضع ركبتيه أولا ، فهذا هو المنهي عنه . وهو فاسد لوجوه .

أحدها : أن البعير إذا برك فإنه يضع يديه أولا وتبقى رجلاه قائمتين ، فإذا نهض فإنه ينهض برجليه أولا وتبقى يداه على الأرض ، وهذا هو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم وفعل خلافه . وكان أول ما يقع منه على الأرض الأقرب منها فالأقرب ، وأول ما يرتفع عن الأرض منها الأعلى فالأعلى .

وكان يضع ركبتيه أولا ثم يديه ثم جبهته . وإذا رفع رفع رأسه أولا ثم يديه ثم ركبتيه ، وهذا عكس فعل البعير ، وهو صلى الله عليه وسلم نهى في الصلاة عن التشبه بالحيوانات ، فنهى عن بروك كبروك البعير ، والتفات كالتفات الثعلب ، وافتراش كافتراش السبع ، وإقعاء كإقعاء الكلب ، ونقر كنقر الغراب ، ورفع الأيدي وقت [ ص: 218 ] السلام كأذناب الخيل الشمس ، فهدي المصلي مخالف لهدي الحيوانات .

الثاني : أن قولهم : ركبتا البعير في يديه كلام لا يعقل ولا يعرفه أهل اللغة ، وإنما الركبة في الرجلين ، وإن أطلق على اللتين في يديه اسم الركبة فعلى سبيل التغليب .

الثالث : أنه لو كان كما قالوه لقال : فليبرك كما يبرك البعير ، وإن أول ما يمس الأرض من البعير يداه .

وسر المسألة أن من تأمل بروك البعير وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بروك كبروك البعير علم أن حديث وائل بن حجر هو الصواب ، والله أعلم .

وكان يقع لي أن حديث أبي هريرة كما ذكرنا مما انقلب على بعض الرواة متنه وأصله ، ولعله " وليضع ركبتيه قبل يديه " ، كما انقلب على بعضهم حديث ابن عمر ( إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) فقال : ( ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن [ ص: 219 ] بلال ) .

وكما انقلب على بعضهم حديث : ( لا يزال يلقى في النار فتقول : هل من مزيد ، إلى أن قال : وأما الجنة فينشئ الله لها خلقا يسكنهم إياها ، فقال : وأما النار فينشئ الله لها خلقا يسكنهم إياها ، حتى رأيت أبا بكر بن أبي شيبة قد رواه كذلك ، فقال ابن أبي شيبة : حدثنا محمد بن فضيل ، عن عبد الله بن سعيد ، عن جده ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ، ولا يبرك كبروك الفحل ) ورواه الأثرم في سننه أيضا عن أبي بكر كذلك .

وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يصدق ذلك ويوافق حديث وائل بن حجر .

قال ابن أبي داود : حدثنا يوسف بن عدي ، حدثنا ابن فضيل هو محمد ، عن عبد الله بن سعيد ، عن جده ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان إذا سجد بدأ بركبتيه قبل يديه )

وقد روى ابن خزيمة في " صحيحه " من حديث مصعب بن سعد ، عن أبيه قال : ( كنا نضع اليدين قبل الركبتين ، فأمرنا بالركبتين قبل اليدين ) وعلى [ ص: 220 ] هذا ، فإن كان حديث أبي هريرة محفوظا فإنه منسوخ ، وهذه طريقة صاحب " المغني " وغيره ، ولكن للحديث علتان .

إحداهما : أنه من رواية يحيى بن سلمة بن كهيل ، وليس ممن يحتج به ، قال النسائي : متروك . وقال ابن حبان : منكر الحديث جدا لا يحتج به ، وقال ابن معين : ليس بشيء .

الثانية : أن المحفوظ من رواية مصعب بن سعد عن أبيه هذا ، إنما هو قصة التطبيق ، وقول سعد : كنا نصنع هذا فأمرنا أن نضع أيدينا على الركب .

وأما قول صاحب " المغني " عن أبي سعيد قال : ( كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين ) فهذا - والله أعلم - وهم في الاسم ، وإنما هو عن سعد ، وهو أيضا وهم في المتن كما تقدم ، وإنما هو في قصة التطبيق ، والله أعلم .

وأما حديث أبي هريرة المتقدم ، فقد علله البخاري والترمذي والدارقطني .

قال البخاري : محمد بن عبد الله بن حسن لا يتابع عليه ، وقال : لا أدري أسمع من أبي الزناد أم لا .

وقال الترمذي : غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه . وقال الدارقطني : تفرد به عبد العزيز الدراوردي ، عن محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي ، عن أبي الزناد ، وقد ذكر النسائي عن قتيبة ، حدثنا عبد الله بن نافع ، عن محمد بن عبد الله بن الحسن العلوي ، عن أبي الزناد [ ص: 221 ] عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يعمد أحدكم في صلاته فيبرك كما يبرك الجمل ) ولم يزد .

قال أبو بكر بن أبي داود : وهذه سنة تفرد بها أهل المدينة ولهم فيها إسنادان، هذا أحدهما، والآخر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم .

قلت : أراد الحديث الذي رواه أصبغ بن الفرج عن الدراوردي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه ( كان يضع يديه قبل ركبتيه ) ويقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك . رواه الحاكم في " المستدرك " من طريق محرز بن سلمة عن الدراوردي وقال : على شرط مسلم .

وقد رواه الحاكم من حديث حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن أنس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم انحط بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه قال الحاكم : على شرطهما ولا أعلم له علة .

قلت : قال عبد الرحمن بن أبي حاتم : سألت أبي عن هذا الحديث ، فقال : هذا الحديث منكر . انتهى .

وإنما أنكره - والله أعلم - لأنه من رواية العلاء بن إسماعيل العطار عن حفص بن غياث والعلاء هذا مجهول لا ذكر [ ص: 222 ] له في الكتب الستة . فهذه الأحاديث المرفوعة من الجانبين كما ترى .

وأما الآثار المحفوظة عن الصحابة فالمحفوظ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يضع ركبتيه قبل يديه ، ذكره عنه عبد الرزاق وابن المنذر ، وغيرهما ، وهو المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه ، ذكره الطحاوي عن فهد عن عمر بن حفص ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أصحاب عبد الله علقمة والأسود قالا : حفظنا عن عمر في صلاته أنه خر بعد ركوعه على ركبتيه كما يخر البعير، ووضع ركبتيه قبل يديه ، ثم ساق من طريق الحجاج بن أرطاة قال : قال إبراهيم النخعي : حفظ عن عبد الله بن مسعود أن ركبتيه كانتا تقعان على الأرض قبل يديه ، وذكر عن أبي مرزوق ، عن وهب ، عن شعبة ، عن مغيرة قال : سألت إبراهيم عن الرجل يبدأ بيديه قبل ركبتيه إذا سجد ؟ قال أويصنع ذلك إلا أحمق أو مجنون !

قال ابن المنذر : وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب ، فممن رأى أن يضع ركبتيه قبل يديه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وبه قال النخعي ، ومسلم بن يسار ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وأهل الكوفة .

وقالت طائفة : يضع يديه قبل ركبتيه ، قاله مالك . وقال الأوزاعي : أدركنا الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم . قال ابن أبي داود : وهو قول أصحاب الحديث .

قلت : وقد روي حديث أبي هريرة بلفظ آخر ذكره البيهقي ، وهو ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه على ركبتيه ) قال [ ص: 223 ] البيهقي : فإن كان محفوظا كان دليلا على أنه يضع يديه قبل ركبتيه عند الإهواء إلى السجود .

وحديث وائل بن حجر أولى لوجوه :

أحدها : أنه أثبت من حديث أبي هريرة ، قاله الخطابي وغيره .

الثاني : أن حديث أبي هريرة مضطرب المتن كما تقدم ، فمنهم من يقول فيه : وليضع يديه قبل ركبتيه ، ومنهم من يقول بالعكس ، ومنهم من يقول : وليضع يديه على ركبتيه ، ومنهم من يحذف هذه الجملة رأسا .

الثالث : ما تقدم من تعليل البخاري والدارقطني وغيرهما .

الرابع : أنه على تقدير ثبوته قد ادعى فيه جماعة من أهل العلم النسخ ، قال ابن المنذر : وقد زعم بعض أصحابنا أن وضع اليدين قبل الركبتين منسوخ ، وقد تقدم ذلك .

الخامس : أنه الموافق لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بروك كبروك الجمل في الصلاة ، بخلاف حديث أبي هريرة .

السادس : أنه الموافق للمنقول عن الصحابة ، كعمر بن الخطاب وابنه ، وعبد الله بن مسعود ، ولم ينقل عن أحد منهم ما يوافق حديث أبي هريرة إلا عن عمر رضي الله عنه على اختلاف عنه .

السابع : أن له شواهد من حديث ابن عمر وأنس كما تقدم ، وليس لحديث أبي هريرة شاهد ، فلو تقاوما ؛ لقدم حديث وائل بن حجر من أجل شواهده ، فكيف وحديث وائل أقوى كما تقدم . [ ص: 224 ] الثامن : أن أكثر الناس عليه ، والقول الآخر إنما يحفظ عن الأوزاعي ومالك ، وأما قول ابن أبي داود : إنه قول أهل الحديث ، فإنما أراد به بعضهم ، وإلا فأحمد والشافعي وإسحاق على خلافه .

التاسع : أنه حديث فيه قصة محكية سيقت لحكاية فعله صلى الله عليه وسلم ، فهو أولى أن يكون محفوظا ؛ لأن الحديث إذا كان فيه قصة محكية دل على أنه حفظ .

العاشر : أن الأفعال المحكية فيه كلها ثابتة صحيحة من رواية غيره ، فهي أفعال معروفة صحيحة وهذا واحد منها فله حكمها ، ومعارضه ليس مقاوما له ، فيتعين ترجيحه ، والله أعلم .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسجد على جبهته وأنفه دون كور العمامة ، ولم يثبت عنه السجود على كور العمامة من حديث صحيح ولا حسن ، ولكن روى عبد الرزاق في " المصنف " من حديث أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على كور عمامته ، وهو من رواية عبد الله بن محرر وهو متروك ، وذكره أبو أحمد الزبيري من حديث جابر ولكنه من رواية عمر بن شمر عن جابر الجعفي ، متروك عن متروك ، وقد ذكر أبو داود في المراسيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي في المسجد فسجد بجبينه وقد اعتم على جبهته ، فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبهته .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على الأرض كثيرا ، وعلى الماء والطين ، وعلى الخمرة المتخذة من خوص النخل ، وعلى الحصير المتخذ منه ، وعلى الفروة المدبوغة .

وكان إذا سجد مكن جبهته وأنفه من الأرض ، ونحى يديه عن جنبيه ، [ ص: 225 ] وجافى بهما حتى يرى بياض إبطيه ، ولو شاءت بهمة - وهي الشاة الصغيرة - أن تمر تحتهما لمرت .

وكان يضع يديه حذو منكبيه وأذنيه ، وفي " صحيح مسلم " عن البراء أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك ) .

وكان يعتدل في سجوده ويستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة .

وكان يبسط كفيه وأصابعه ، ولا يفرج بينها ولا يقبضها ، وفي " صحيح ابن حبان ( كان إذا ركع فرج أصابعه فإذا سجد ضم أصابعه ) .

وكان يقول : ( سبحان ربي الأعلى ) وأمر به .

وكان يقول : ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ) .

[ ص: 226 ] وكان يقول : ( سبوح قدوس رب الملائكة والروح ) .

وكان يقول : ( سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت ) .

وكان يقول : ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ) .

وكان يقول : ( اللهم لك سجدت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره ، تبارك الله أحسن الخالقين ) .

وكان يقول : ( اللهم اغفر لي ذنبي كله ، دقه وجله ، وأوله وآخره ، وعلانيته وسره ) .

وكان يقول : اللهم اغفر لي خطيئتي ، وجهلي وإسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي جدي وهزلي ، وخطئي وعمدي ، وكل ذلك عندي ، اللهم اغفر لي ما قدمت ، وما أخرت ، وما أسررت ، وما أعلنت ، أنت [ ص: 227 ] إلهي لا إله إلا أنت ) .

وكان يقول : ( اللهم اجعل في قلبي نورا ، وفي سمعي نورا ، وفي بصري نورا ، وعن يميني نورا ، وعن شمالي نورا ، وأمامي نورا ، وخلفي نورا ، وفوقي نورا ، وتحتي نورا ، واجعل لي نورا ) .

وأمر بالاجتهاد في الدعاء في السجود وقال : ( إنه قمن أن يستجاب لكم ) . وهل هذا أمر بأن يكثر الدعاء في السجود ، أو أمر بأن الداعي إذا دعا في محل ، فليكن في السجود ؟ وفرق بين الأمرين ، وأحسن ما يحمل عليه الحديث أن الدعاء نوعان : دعاء ثناء ، ودعاء مسألة ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر في سجوده من النوعين ، والدعاء الذي أمر به في السجود يتناول النوعين .

والاستجابة أيضا نوعان : استجابة دعاء الطالب بإعطائه سؤاله ، واستجابة دعاء المثني بالثواب ، وبكل واحد من النوعين فسر قوله تعالى : ( أجيب دعوة الداع إذا دعان ) [ البقرة : 187 ] والصحيح أنه يعم النوعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية