صفحة جزء
فصل

ومنها : جواز إنشاد الشعر للقادم فرحا وسرورا به ، ما لم يكن معه محرم من لهو كمزمار وشبابة وعود ، ولم يكن غناء يتضمن رقية الفواحش وما حرم الله ، فهذا لا يحرمه أحد ، وتعلق أرباب السماع الفسقي به ، كتعلق من يستحل شرب الخمر المسكر قياسا على أكل العنب وشرب العصير الذي لا يسكر ، ونحو هذا من القياسات التي تشبه قياس الذين قالوا : ( إنما البيع مثل الربا )

ومنها : استماع النبي صلى الله عليه وسلم مدح المادحين له وترك الإنكار عليهم ، ولا يصح قياس غيره عليه في هذا ; لما بين المادحين والممدوحين من الفروق ، وقد قال : ( احثوا في وجوه المداحين التراب )

[ ص: 502 ] ومنها : ما اشتملت عليه قصة الثلاثة الذين خلفوا من الحكم والفوائد الجمة ، فنشير إلى بعضها :

فمنها : جواز إخبار الرجل عن تفريطه وتقصيره في طاعة الله ورسوله ، وعن سبب ذلك ، وما آل إليه أمره ، وفي ذلك من التحذير والنصيحة وبيان طرق الخير والشر وما يترتب عليها ، ما هو من أهم الأمور

ومنها : جواز مدح الإنسان نفسه بما فيه من الخير إذا لم يكن على سبيل الفخر والترفع .

ومنها : تسلية الإنسان نفسه عما لم يقدر له من الخير بما قدر له من نظيره أو خير منه

ومنها : أن بيعة العقبة كانت من أفضل مشاهد الصحابة ، حتى إن كعبا كان لا يراها دون مشهد بدر

ومنها : أن الإمام إذا رأى المصلحة في أن يستر عن رعيته بعض ما يهم به ويقصده من العدو ويوري به عنه استحب له ذلك أو يتعين بحسب المصلحة

ومنها : أن الستر والكتمان إذا تضمن مفسدة لم يجز

ومنها : أن الجيش في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لهم ديوان وأول من دون الديوان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهذا من سنته التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعها ، وظهرت مصلحتها وحاجة المسلمين إليها

ومنها : أن الرجل إذا حضرت له فرصة القربة والطاعة فالحزم كل الحزم في انتهازها والمبادرة إليها ، والعجز في تأخيرها والتسويف بها ، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها ، فإن العزائم والهمم سريعة الانتقاض قلما ثبتت ، والله سبحانه يعاقب من فتح له بابا من الخير فلم ينتهزه ، بأن يحول [ ص: 503 ] بين قلبه وإرادته ، فلا يمكنه بعد من إرادته عقوبة له ، فمن لم يستجب لله ورسوله إذا دعاه حال بينه وبين قلبه وإرادته ، فلا يمكنه الاستجابة بعد ذلك ، قال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) [ الأنفال : 24 ] وقد صرح الله سبحانه بهذا في قوله : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ) [ الأنعام : 110 ] وقال تعالى : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) [ الصف : 5 ] ، وقال : ( وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم ) [ التوبة : 115 ] وهو كثير في القرآن

ومنها : أنه لم يكن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحد رجال ثلاثة ; إما مغموص عليه في النفاق أو رجل من أهل الأعذار ، أو من خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمله على المدينة ، أو خلفه لمصلحة

ومنها : أن الإمام والمطاع لا ينبغي له أن يهمل من تخلف عنه في بعض الأمور ، بل يذكره ليراجع الطاعة ويتوب ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال بتبوك : ما فعل كعب ؟ ولم يذكر سواه من المخلفين استصلاحا له ومراعاة ، وإهمالا للقوم المنافقين

ومنها : جواز الطعن في الرجل بما يغلب على اجتهاد الطاعن حمية أو ذبا عن الله ورسوله ، ومن هذا طعن أهل الحديث فيمن طعنوا فيه من الرواة ، ومن هذا طعن ورثة الأنبياء وأهل السنة في أهل الأهواء والبدع لله لا لحظوظهم وأغراضهم

ومنها : جواز الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الراد أنه وهم وغلط ، كما قال معاذ للذي طعن في كعب : بئس ما قلت ، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا ، ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على واحد منهما

ومنها : أن السنة للقادم من السفر أن يدخل البلد على وضوء وأن يبدأ [ ص: 504 ] ببيت الله قبل بيته ، فيصلي فيه ركعتين ثم يجلس للمسلمين عليه ثم ينصرف إلى أهله

ومنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل علانية من أظهر الإسلام من المنافقين ، ويكل سريرته إلى الله ، ويجري عليه حكم الظاهر ، ولا يعاقبه بما لم يعلم من سره

ومنها : ترك الإمام والحاكم رد السلام على من أحدث حدثا ; تأديبا له وزجرا لغيره ، فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينقل أنه رد على كعب ، بل قابل سلامه بتبسم المغضب

ومنها : أن التبسم قد يكون عن الغضب كما يكون عن التعجب والسرور ، فإن كلا منهما يوجب انبساط دم القلب وثورانه ، ولهذا تظهر حمرة الوجه لسرعة ثوران الدم فيه ، فينشأ عن ذلك السرور، والغضب تعجب يتبعه ضحك وتبسم ، فلا يغتر المغتر بضحك القادر عليه في وجهه ، ولا سيما عند المعتبة كما قيل


إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث مبتسم

ومنها : معاتبة الإمام والمطاع أصحابه ومن يعز عليه ويكرم عليه ، فإنه عاتب الثلاثة دون سائر من تخلف عنه ، وقد أكثر الناس من مدح عتاب الأحبة واستلذاذه والسرور به ، فكيف بعتاب أحب الخلق على الإطلاق إلى المعتوب عليه ، ولله ما كان أحلى ذلك العتاب وما أعظم ثمرته وأجل فائدته ، ولله ما نال به الثلاثة من أنواع المسرات وحلاوة الرضا وخلع القبول

التالي السابق


الخدمات العلمية