صفحة جزء
ومنها : توفيق الله لكعب وصاحبيه فيما جاءوا به من الصدق ، ولم يخذلهم حتى كذبوا واعتذروا بغير الحق ، فصلحت عاجلتهم وفسدت عاقبتهم كل الفساد ، والصادقون تعبوا في العاجلة بعض التعب فأعقبهم صلاح العاقبة والفلاح كل الفلاح ، وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة ، فمرارات المبادي حلاوات [ ص: 505 ] في العواقب ، وحلاوات المبادي مرارات في العواقب . وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لكعب : ( أما هذا فقد صدق ) ، دليل ظاهر في التمسك بمفهوم اللقب عند قيام قرينة تقتضي تخصيص المذكور بالحكم ، كقوله تعالى : ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان ) [ الأنبياء : 78 و 79 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا ) ، وقوله في هذا الحديث : ( أما هذا فقد صدق ) ، وهذا مما لا يشك السامع أن المتكلم قصد تخصيصه بالحكم .

وقول كعب : هل لقي هذا معي أحد ؟ فقالوا : نعم ، مرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، فيه أن الرجل ينبغي له أن يرد حر المصيبة بروح التأسي بمن لقي مثل ما لقي ، وقد أرشد سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى : ( ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ) [ النساء : 104 ] ، وهذا هو الروح الذي منعه الله سبحانه أهل النار فيها بقوله : ( ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ) [ الزخرف : 39 ] . وقوله : " فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة " . هذا الموضع مما عد من أوهام الزهري ، فإنه لا يحفظ عن أحد من أهل المغازي والسير البتة ذكر هذين الرجلين في أهل بدر ، لا ابن إسحاق ، ولا موسى بن عقبة ولا الأموي ، ولا الواقدي ، ولا أحد ممن عد أهل بدر ، وكذلك ينبغي ألا يكونا من أهل بدر ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يهجر حاطبا ، ولا عاقبه وقد جس عليه ، وقال لعمر لما هم بقتله : ( وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) ، وأين ذنب التخلف من ذنب الجس .

قال أبو الفرج بن الجوزي : ولم أزل حريصا على كشف ذلك وتحقيقه حتى رأيت أبا بكر الأثرم قد ذكر الزهري ، وذكر فضله وحفظه وإتقانه ، وأنه لا يكاد يحفظ عليه غلط إلا في هذا الموضع ، فإنه قال : إن مرارة بن الربيع ، وهلال بن [ ص: 506 ] أمية شهدا بدرا ، وهذا لم يقله أحد غيره ، والغلط لا يعصم منه إنسان .

التالي السابق


الخدمات العلمية