صفحة جزء
فصل

وفي سجود كعب حين سمع صوت المبشر دليل ظاهر أن تلك كانت عادة الصحابة ، وهي سجود الشكر عند النعم المتجددة والنقم المندفعة ، وقد سجد أبو بكر الصديق لما جاءه قتل مسيلمة الكذاب ، وسجد علي بن أبي طالب لما وجد ذا الثدية مقتولا في الخوارج ، وسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بشره جبريل أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا ، وسجد حين شفع لأمته فشفعه الله فيهم ثلاث مرات ، وأتاه بشير فبشره بظفر جند له على عدوهم ورأسه في حجر عائشة ، فقام فخر ساجدا ، وقال أبو بكرة : كان رسول الله إذا أتاه أمر يسره خر لله ساجدا ، وهي آثار صحيحة لا مطعن فيها .

وفي استباق صاحب الفرس والراقي على سلع ليبشرا كعبا دليل على حرص القوم على الخير ، واستباقهم إليه ، وتنافسهم في مسرة بعضهم بعضا .

وفي نزع كعب ثوبيه وإعطائهما للبشير ، دليل على أن إعطاء المبشرين من [ ص: 512 ] مكارم الأخلاق والشيم وعادة الأشراف ، وقد أعتق العباس غلامه لما بشره أن عند الحجاج بن علاط من الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يسره .

وفيه دليل على جواز إعطاء البشير جميع ثيابه .

وفيه دليل على استحباب تهنئة من تجددت له نعمة دينية ، والقيام إليه إذا أقبل ، ومصافحته ، فهذه سنة مستحبة ، وهو جائز لمن تجددت له نعمة دنيوية ، وأن الأولى أن يقال له : ليهنك ما أعطاك الله ، وما من الله به عليك ، ونحو هذا الكلام ، فإن فيه تولية النعمة ربها ، والدعاء لمن نالها بالتهني بها .

وفيه دليل على أن خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها يوم توبته إلى الله ، وقبول الله توبته ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك . فإن قيل : فكيف يكون هذا اليوم خيرا من يوم إسلامه ؟

قيل : هو مكمل ليوم إسلامه ، ومن تمامه ، فيوم إسلامه بداية سعادته ، ويوم توبته كمالها وتمامها ، والله المستعان .

وفي سرور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك وفرحه به واستنارة وجهه دليل على ما جعل الله فيه من كمال الشفقة على الأمة والرحمة بهم والرأفة ، حتى لعل فرحه كان أعظم من فرح كعب وصاحبيه .

وقول كعب : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي . دليل على استحباب الصدقة عند التوبة بما قدر عليه من المال .

وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أمسك عليك بعض مالك ، فهو خير لك ) ، دليل على أن من نذر الصدقة بكل ماله ، لم يلزمه إخراج جميعه ، بل يجوز له أن يبقي له منه بقية ، وقد اختلفت الرواية في ذلك ، ففي " الصحيحين " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : " أمسك عليك بعض مالك " ، ولم يعين له قدرا ، بل أطلق ، ووكله إلى اجتهاده في قدر الكفاية ، وهذا هو الصحيح ، فإن ما نقص عن كفايته وكفاية أهله لا يجوز له التصدق به ، فنذره لا يكون طاعة ، فلا يجب الوفاء به ، وما زاد على قدر كفايته وحاجته ، فإخراجه والصدقة به أفضل ، فيجب إخراجه إذا نذره ، هذا قياس [ ص: 513 ] المذهب ، ومقتضى قواعد الشريعة ، ولهذا تقدم كفاية الرجل ، وكفاية أهله على أداء الواجبات المالية ، سواء كانت حقا لله كالكفارات والحج ، أو حقا للآدميين كأداء الديون ، فإنا نترك للمفلس ما لا بد منه من مسكن وخادم وكسوة وآلة حرفة ، أو ما يتجر به لمؤنته إن فقدت الحرفة ، ويكون حق الغرماء فيما بقي .

وقد نص الإمام أحمد على أن من نذر الصدقة بماله كله أجزاه ثلثه ، واحتج له أصحابه بما روي في قصة كعب هذه ، أنه قال : يا رسول الله ! إن من توبتي إلى الله ورسوله أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة ، قال : " لا " ، قلت : فنصفه ؟ قال : " لا " ، قلت : فثلثه ، قال : " نعم " ، قلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر ، رواه أبو داود . وفي ثبوت هذا ما فيه ، فإن الصحيح في قصة كعب هذه ما رواه أصحاب الصحيح من حديث الزهري ، عن ولد كعب بن مالك عنه ، أنه قال : " أمسك عليك بعض مالك " من غير تعيين لقدره ، وهم أعلم بالقصة من غيرهم ، فإنهم ولده ، وعنه نقلوها .

فإن قيل : فما تقولون فيما رواه الإمام أحمد في " مسنده " أن أبا لبابة بن عبد المنذر لما تاب الله عليه ، قال : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك ، وأن أنخلع من مالي صدقة لله عز وجل ولرسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجزئ عنك الثلث ) . قيل : هذا هو الذي احتج به أحمد ، لا بحديث كعب ، فإنه قال في رواية ابنه عبد الله : إذا نذر أن يتصدق بماله كله أو ببعضه ، وعليه دين أكثر مما يملكه ، فالذي أذهب إليه أنه يجزئه من ذلك الثلث ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا لبابة بالثلث ، وأحمد أعلم بالحديث أن يحتج بحديث كعب [ ص: 514 ] هذا الذي فيه ذكر الثلث ، إذ المحفوظ في هذا الحديث " أمسك عليك بعض مالك " ، وكأن أحمد رأى تقييد إطلاق حديث كعب هذا بحديث أبي لبابة .

وقوله فيمن نذر أن يتصدق بماله كله أو ببعضه وعليه دين يستغرقه : إنه يجزئه من ذلك الثلث ، دليل على انعقاد نذره ، وعليه دين يستغرق ماله ، ثم إذا قضى الدين أخرج مقدار ثلث ماله يوم النذر ، وهكذا قال في رواية ابنه عبد الله : إذا وهب ماله ، وقضى دينه ، واستفاد غيره ، فإنما يجب عليه إخراج ثلث ماله يوم حنثه ، يريد بيوم حنثه يوم نذره ، فينظر قدر الثلث ذلك اليوم ، فيخرجه بعد قضاء دينه .

وقوله : أو ببعضه . يريد أنه إذا نذر الصدقة بمعين من ماله ، أو بمقدار كألف ونحوها ، فيجزئه ثلثه كنذر الصدقة بجميع ماله ، والصحيح من مذهبه لزوم الصدقة بجميع المعين . وفيه رواية أخرى : أن المعين إن كان ثلث ماله فما دونه ، لزمه الصدقة بجميعه ، وإن زاد على الثلث لزمه منه بقدر الثلث ، وهي أصح عند أبي البركات .

وبعد : فإن الحديث ليس فيه دليل على أن كعبا وأبا لبابة نذرا نذرا منجزا ، وإنما قالا : إن من توبتنا أن ننخلع من أموالنا ، وهذا ليس بصريح في النذر ، وإنما فيه العزم على الصدقة بأموالهما شكرا لله على قبول توبتهما ، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بعض المال يجزئ من ذلك ، ولا يحتاجان إلى إخراجه كله ، وهذا كما قال لسعد وقد استأذنه أن يوصي بماله كله ، فأذن له في قدر الثلث .

[ ص: 515 ] فإن قيل : هذا يدفعه أمران . أحدهما : قوله : " يجزئك " ، والإجزاء إنما يستعمل في الواجب ، والثاني : أن منعه من الصدقة بما زاد على الثلث دليل على أنه ليس بقربة ، إذ الشارع لا يمنع من القرب ، ونذر ما ليس بقربة لا يلزم الوفاء به .

قيل : أما قوله : " يجزئك " ، فهو بمعنى يكفيك ، فهو من الرباعي ، وليس من " جزى عنه " إذا قضى عنه ، يقال : أجزأني : إذا كفاني ، وجزى عني : إذا قضى عني ، وهذا هو الذي يستعمل في الواجب ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة في الأضحية : " تجزي عنك ولن تجزي عن أحد بعدك " ، والكفاية تستعمل في الواجب والمستحب .

وأما منعه من الصدقة بما زاد على الثلث ، فهو إشارة منه عليه بالأرفق به ، وما يحصل له به منفعة دينه ودنياه ، فإنه لو مكنه من إخراج ماله كله لم يصبر على الفقر والعدم ، كما فعل بالذي جاءه بالصرة ليتصدق بها ، فضربه بها ولم يقبلها منه خوفا عليه من الفقر وعدم الصبر . وقد يقال - وهو أرجح إن شاء الله تعالى - إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل كل واحد ممن أراد الصدقة بماله بما يعلم من حاله ، فمكن أبا بكر الصديق من إخراج ماله كله ، وقال : ( ما أبقيت لأهلك ؟ " [ ص: 516 ] فقال : أبقيت لهم الله ورسوله ) ، فلم ينكر عليه ، ( وأقر عمر على الصدقة بشطر ماله ) ، ومنع صاحب الصرة من التصدق بها ، وقال لكعب : ( أمسك عليك بعض مالك ) ، وهذا ليس فيه تعيين المخرج بأنه الثلث ، ويبعد جدا بأن يكون الممسك ضعفي المخرج في هذا اللفظ ، وقال لأبي لبابة : ( يجزئك الثلث ) ، ولا تناقض بين هذه الأخبار ، وعلى هذا فمن نذر الصدقة بماله كله أمسك منه ما يحتاج إليه هو وأهله ، ولا يحتاجون معه إلى سؤال الناس مدة حياتهم من رأس مال أو عقار ، أو أرض يقوم مغلها بكفايتهم ، وتصدق بالباقي . والله أعلم .

وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : يتصدق منه بقدر الزكاة ، ويمسك الباقي . وقال جابر بن زيد : إن كان ألفين فأكثر أخرج عشره وإن كان ألفا ، فما دون فسبعه وإن كان خمسمائة فما دون فخمسه . وقال أبو حنيفة رحمه الله : يتصدق بكل ماله الذي تجب فيه الزكاة ، وما لا تجب فيه الزكاة ، ففيه روايتان : أحدهما : يخرجه ، والثانية : لا يلزمه منه شيء .

وقال الشافعي : تلزمه الصدقة بماله كله ، وقال مالك والزهري وأحمد : يتصدق بثلثه ، وقالت طائفة : يلزمه كفارة يمين فقط .

التالي السابق


الخدمات العلمية