صفحة جزء
فصل

في حجة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - سنة تسع بعد مقدمه من تبوك [ ص: 519 ] قال ابن إسحاق : ثم أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منصرفه من تبوك بقية رمضان وشوالا وذا القعدة ، ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم ، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم ، فخرج أبو بكر والمؤمنون .

قال ابن سعد : فخرج في ثلاثمائة رجل من المدينة ، وبعث معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعشرين بدنة قلدها وأشعرها بيده ، عليها ناجية بن جندب الأسلمي ، وساق أبو بكر خمس بدنات .

قال ابن إسحاق : فنزلت براءة في نقض ما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه ، فخرج علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العضباء .

قال ابن سعد : فلما كان بالعرج - وابن عائذ يقول : بضجنان - لحقه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على العضباء ، فلما رآه أبو بكر قال : أمير أو مأمور ؟ قال : لا بل مأمور ، ثم مضيا .

وقال ابن سعد : فقال له أبو بكر : أستعملك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحج ؟ قال : لا ، ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس ، وأنبذ إلى كل ذي عهد عهده ، فأقام أبو بكر للناس حجهم حتى إذا كان يوم النحر ، قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس عند الجمرة بالذي أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونبذ إلى كل ذي عهد عهده ، وقال : أيها الناس ! لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو إلى مدته .

وقال الحميدي : حدثنا سفيان ، قال : حدثني أبو إسحاق الهمداني ، عن زيد بن يثيع ، قال : سألنا عليا بأي شيء بعثت في الحجة ؟ قال : ( بعثت بأربع : لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يجتمع مسلم وكافر في المسجد الحرام بعد عامه هذا ، ومن كان بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد فعهده إلى [ ص: 520 ] مدته ، ومن لم يكن له عهد ، فأجله إلى أربع أشهر ) .

وفي " الصحيحين " : عن أبي هريرة قال : ( بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : ألا يحج بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ثم أردف النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، فأمره أن يؤذن ببراءة ، قال : فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة ، وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ) .

وفي هذه القصة دليل على أن يوم الحج الأكبر يوم النحر ، واختلف في حجة الصديق هذه ، هل هي التي أسقطت الفرض ، أو المسقطة هي حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟ على قولين : أصحهما : الثاني ، والقولان مبنيان على أصلين ، أحدهما : هل كان الحج فرض قبل عام حجة الوداع أو لا ؟ والثاني : هل كانت حجة الصديق - رضي الله عنه - في ذي الحجة ، أو وقعت في ذي القعدة من أجل النسيء الذي كان الجاهلية يؤخرون له الأشهر ويقدمونها ؟ على قولين ، والثاني : قول مجاهد وغيره .

وعلى هذا فلم يؤخر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحج بعد فرضه عاما واحدا ، بل بادر إلى الامتثال في العام الذي فرض فيه ، وهذا هو اللائق بهديه وحاله صلى الله عليه وسلم ، وليس بيد من ادعى تقدم فرض الحج سنة ست أو سبع أو ثمان أو تسع دليل واحد . وغاية ما احتج به من قال : فرض سنة ست ، قوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) [ البقرة : 196 ] ، وهي قد نزلت بالحديبية سنة ست ، وهذا ليس فيه ابتداء فرض الحج ، وإنما فيه الأمر بإتمامه إذا شرع فيه ، فأين هذا من وجوب ابتدائه ، وآية فرض الحج ، وهي قوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت من ) [ ص: 521 ] ( استطاع إليه سبيلا ) [ آل عمران : 97 ] نزلت عام الوفود أواخر سنة تسع .

التالي السابق


الخدمات العلمية