صفحة جزء
فصل في هديه في الطاعون ، وعلاجه ، والاحتراز منه

في " الصحيحين " عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد : ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون ؟ فقال أسامة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل ، وعلى من كان قبلكم ، فإذا سمعتم به بأرض ، فلا تدخلوا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارا منه ) .

وفي " الصحيحين " أيضا : عن حفصة بنت سيرين ، قالت : قال أنس بن مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الطاعون شهادة لكل مسلم ) . [ ص: 35 ]

الطاعون - من حيث اللغة - نوع من الوباء ، قاله صاحب " الصحاح " وهو عند أهل الطب : ورم رديء قتال يخرج معه تلهب شديد مؤلم جدا يتجاوز المقدار في ذلك ، ويصير ما حوله في الأكثر أسود أو أخضر ، أو أكمد ويئول أمره إلى التقرح سريعا . وفي الأكثر يحدث في ثلاثة مواضع في الإبط وخلف الأذن والأرنبة وفي اللحوم الرخوة .

وفي أثر عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : الطعن قد عرفناه ، فما الطاعون ؟ قال : ( غدة كغدة البعير يخرج في المراق والإبط ) .

قال الأطباء : إذا وقع الخراج في اللحوم الرخوة ، والمغابن ، وخلف الأذن والأرنبة ، وكان من جنس فاسد سمي طاعونا ، وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد ، مستحيل إلى جوهر سمي ، يفسد العضو ويغير ما يليه ، وربما رشح دما وصديدا ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة ، فيحدث القيء والخفقان والغشي ، وهذا الاسم وإن كان يعم كل ورم يؤدي إلى القلب كيفية رديئة حتى يصير لذلك قتالا ، فإنه يختص به الحادث في اللحم الغددي ؛ لأنه لرداءته لا يقبله من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع ، وأردؤه ما حدث في الإبط وخلف الأذن لقربهما من الأعضاء التي هي أرأس ، وأسلمه الأحمر ، ثم الأصفر . والذي إلى السواد فلا يفلت منه أحد .

ولما كان الطاعون يكثر في الوباء ، وفي البلاد الوبيئة ، عبر عنه بالوباء ، كما قال الخليل : الوباء الطاعون . وقيل : هو كل مرض يعم ، والتحقيق أن بين الوباء [ ص: 36 ] والطاعون عموما وخصوصا فكل طاعون وباء ، وليس كل وباء طاعونا ، وكذلك الأمراض العامة أعم من الطاعون فإنه واحد منها ، والطواعين خراجات وقروح وأورام رديئة حادثة في المواضع المتقدم ذكرها .

قلت : هذه القروح والأورام والجراحات هي آثار الطاعون وليست نفسه ، ولكن الأطباء لما لم تدرك منه إلا الأثر الظاهر جعلوه نفس الطاعون . والطاعون يعبر به عن ثلاثة أمور :

أحدها : هذا الأثر الظاهر ، وهو الذي ذكره الأطباء .

والثاني : الموت الحادث عنه ، وهو المراد بالحديث الصحيح في قوله : ( الطاعون شهادة لكل مسلم ) .

والثالث : السبب الفاعل لهذا الداء ، وقد ورد في الحديث الصحيح : ( أنه بقية رجز أرسل على بني إسرائيل ) ، وورد فيه " أنه وخز الجن " وجاء أنه دعوة نبي .

وهذه العلل والأسباب ليس عند الأطباء ما يدفعها ، كما ليس عندهم ما يدل عليها ، والرسل تخبر بالأمور الغائبة ، وهذه الآثار التي أدركوها من أمر الطاعون ليس معهم ما ينفي أن تكون بتوسط الأرواح ، فإن تأثير الأرواح في الطبيعة وأمراضها وهلاكها أمر لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وتأثيراتها ، وانفعال الأجسام وطبائعها عنها ، والله سبحانه قد يجعل لهذه الأرواح تصرفا في أجسام بني آدم عند حدوث الوباء وفساد الهواء ، كما يجعل لها تصرفا عند بعض المواد الرديئة التي تحدث للنفوس هيئة رديئة ، ولا سيما عند هيجان الدم ، والمرة السوداء ، وعند هيجان المني ، فإن الأرواح الشيطانية تتمكن من فعلها بصاحب [ ص: 37 ] هذه العوارض ما لا تتمكن من غيره ، ما لم يدفعها دافع أقوى من هذه الأسباب من الذكر ، والدعاء ، والابتهال والتضرع ، والصدقة ، وقراءة القرآن ، فإنه يستنزل بذلك من الأرواح الملكية ما يقهر هذه الأرواح الخبيثة ، ويبطل شرها ويدفع تأثيرها ، وقد جربنا نحن وغيرنا هذا مرارا لا يحصيها إلا الله ، ورأينا لاستنزال هذه الأرواح الطيبة واستجلاب قربها تأثيرا عظيما في تقوية الطبيعة ، ودفع المواد الرديئة ، وهذا يكون قبل استحكامها وتمكنها ، ولا يكاد ينخرم ، فمن وفقه الله بادر عند إحساسه بأسباب الشر إلى هذه الأسباب التي تدفعها عنه ، وهي له من أنفع الدواء ، وإذا أراد الله عز وجل إنفاذ قضائه وقدره ، أغفل قلب العبد عن معرفتها وتصورها وإرادتها ، فلا يشعر بها ولا يريدها ليقضي الله فيه أمرا كان مفعولا .

وسنزيد هذا المعنى إن شاء الله تعالى إيضاحا وبيانا عند الكلام على التداوي بالرقى ، والعوذ النبوية ، والأذكار ، والدعوات ، وفعل الخيرات ، ونبين أن نسبة طب الأطباء إلى هذا الطب النبوي ، كنسبة طب الطرقية والعجائز إلى طبهم ، كما اعترف به حذاقهم وأئمتهم ونبين أن الطبيعة الإنسانية أشد شيء انفعالا عن الأرواح وأن قوى العوذ ، والرقى ، والدعوات ، فوق قوى الأدوية ، حتى إنها تبطل قوى السموم القاتلة .

والمقصود أن فساد الهواء جزء من أجزاء السبب التام ، والعلة الفاعلة للطاعون ، فإن فساد جوهر الهواء الموجب لحدوث الوباء وفساده يكون لاستحالة جوهره إلى الرداءة ؛ لغلبة إحدى الكيفيات الرديئة عليه كالعفونة ، والنتن والسمية في أي وقت كان من أوقات السنة ، وإن كان أكثر حدوثه في أواخر الصيف ، وفي الخريف غالبا لكثرة اجتماع الفضلات المرارية الحادة وغيرها في فصل الصيف ، وعدم تحللها في آخره وفي الخريف لبرد الجو وردغة الأبخرة والفضلات التي كانت تتحلل في زمن الصيف ، فتنحصر ، فتسخن ، وتعفن فتحدث الأمراض العفنة ولا سيما إذا صادفت البدن مستعدا قابلا رهلا ، قليل [ ص: 38 ] الحركة كثير المواد فهذا لا يكاد يفلت من العطب .

وأصح الفصول فيه فصل الربيع . قال أبقراط : إن في الخريف أشد ما تكون من الأمراض ، وأقتل ، وأما الربيع فأصح الأوقات كلها وأقلها موتا ، وقد جرت عادة الصيادلة ومجهزي الموتى أنهم يستدينون ويتسلفون في الربيع والصيف على فصل الخريف ، فهو ربيعهم ، وهم أشوق شيء إليه ، وأفرح بقدومه ، وقد روي في حديث : ( إذا طلع النجم ارتفعت العاهة عن كل بلد ) . وفسر بطلوع الثريا ، وفسر بطلوع النبات زمن الربيع ومنه : ( والنجم والشجر يسجدان ) [ الرحمن : 7] ، فإن كمال طلوعه وتمامه يكون في فصل الربيع ، وهو الفصل الذي ترتفع فيه الآفات .

وأما الثريا ، فالأمراض تكثر وقت طلوعها مع الفجر وسقوطها .

قال التميمي في كتاب " مادة البقاء " : أشد أوقات السنة فسادا ، وأعظمها بلية على الأجساد وقتان : أحدهما : وقت سقوط الثريا للمغيب عند طلوع الفجر . [ ص: 39 ] والثاني : وقت طلوعها من المشرق قبل طلوع الشمس على العالم ، بمنزلة من منازل القمر ، وهو وقت تصرم فصل الربيع وانقضائه ، غير أن الفساد الكائن عند طلوعها أقل ضررا من الفساد الكائن عند سقوطها .

وقال أبو محمد بن قتيبة : يقال : ما طلعت الثريا ، ولا نأت إلا بعاهة في الناس والإبل ، وغروبها أعوه من طلوعها .

وفي الحديث قول ثالث - ولعله أولى الأقوال به - أن المراد بالنجم : الثريا ، وبالعاهة : الآفة التي تلحق الزروع والثمار في فصل الشتاء وصدر فصل الربيع ، فحصل الأمن عليها عند طلوع الثريا في الوقت المذكور ، ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة وشرائها قبل أن يبدو صلاحها . والمقصود : الكلام على هديه صلى الله عليه وسلم عند وقوع الطاعون .

التالي السابق


الخدمات العلمية