صفحة جزء
فصل

في هديه - صلى الله عليه وسلم - في علاج لدغة العقرب بالرقية

روى ابن أبي شيبة في " مسنده " ، من حديث عبد الله بن مسعود قال : ( بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ، إذ سجد فلدغته عقرب في أصبعه فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : " لعن الله العقرب ما تدع نبيا ولا غيره " ، قال : ثم دعا بإناء فيه ماء وملح [ ص: 166 ] فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح ، ويقرأ : ( قل هو الله أحد ) والمعوذتين حتى سكنت ) .

ففي هذا الحديث العلاج بالدواء المركب من الأمرين : الطبيعي والإلهي ، فإن في سورة الإخلاص من كمال التوحيد العلمي الاعتقادي ، وإثبات الأحدية لله ، المستلزمة نفي كل شركة عنه ، وإثبات الصمدية المستلزمة لإثبات كل كمال له مع كون الخلائق تصمد إليه في حوائجها ، أي : تقصده الخليقة وتتوجه إليه علويها وسفليها ، ونفي الوالد والولد ، والكفء عنه المتضمن لنفي الأصل والفرع والنظير والمماثل مما اختصت به وصارت تعدل ثلث القرآن ، ففي اسمه الصمد إثبات كل الكمال ، وفي نفي الكفء التنزيه عن الشبيه والمثال . وفي الأحد نفي كل شريك لذي الجلال ، وهذه الأصول الثلاثة هي مجامع التوحيد .

وفي المعوذتين الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا ، فإن الاستعاذة من شر ما خلق تعم كل شر يستعاذ منه ، سواء كان في الأجسام ، أو الأرواح .

والاستعاذة من شر الغاسق وهو الليل ، وآيته وهو القمر إذا غاب ، تتضمن الاستعاذة من شر ما ينتشر فيه من الأرواح الخبيثة ، التي كان نور النهار يحول بينها وبين الانتشار ، فلما أظلم الليل عليها وغاب القمر انتشرت وعاثت .

والاستعاذة من شر النفاثات في العقد تتضمن الاستعاذة من شر السواحر وسحرهن .

والاستعاذة من شر الحاسد تتضمن الاستعاذة من النفوس الخبيثة المؤذية بحسدها ونظرها .

والسورة الثانية تتضمن الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن فقد [ ص: 167 ] جمعت السورتان الاستعاذة من كل شر ، ولهما شأن عظيم في الاحتراس والتحصن من الشرور قبل وقوعها ، ولهذا أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - عقبة بن عامر بقراءتهما عقب كل صلاة ، ذكره الترمذي في " جامعه " وفي هذا سر عظيم في استدفاع الشرور من الصلاة إلى الصلاة . وقال : ما تعوذ المتعوذون بمثلهما . وقد ذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - سحر في إحدى عشرة عقدة ، وأن جبريل نزل عليه بهما ، فجعل كلما قرأ آية منهما انحلت عقدة ، حتى انحلت العقد كلها ، وكأنما أنشط من عقال .

وأما العلاج الطبيعي فيه ، فإن في الملح نفعا لكثير من السموم ، ولا سيما لدغة العقرب ، قال صاحب " القانون " : يضمد به مع بزر الكتان للسع العقرب ، وذكره غيره أيضا . وفي الملح من القوة الجاذبة المحللة ما يجذب السموم ويحللها ، ولما كان في لسعها قوة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج ، جمع بين الماء المبرد لنار اللسعة ، والملح الذي فيه جذب وإخراج ، وهذا أتم ما يكون من العلاج ، وأيسره ، وأسهله ، وفيه تنبيه على أن علاج هذا الداء بالتبريد والجذب والإخراج والله أعلم .

وقد روى مسلم في " صحيحه " عن أبي هريرة قال : ( جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ! ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة فقال : " أما لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك ) .

واعلم أن الأدوية الطبيعية الإلهية تنفع من الداء بعد حصوله ، وتمنع من وقوعه ، وإن وقع لم يقع وقوعا مضرا ، وإن كان مؤذيا ، والأدوية الطبيعية إنما تنفع ، بعد حصول الداء فالتعوذات والأذكار ، إما أن تمنع وقوع هذه الأسباب ، وإما أن تحول بينها وبين كمال تأثيرها بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه ، فالرقى [ ص: 168 ] والعوذ تستعمل لحفظ الصحة ، ولإزالة المرض ، أما الأول فكما في " الصحيحين " من حديث عائشة : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه ( قل هو الله أحد ) والمعوذتين . ثم يمسح بهما وجهه ، وما بلغت يده من جسده ) .

وكما في حديث عوذة أبي الدرداء المرفوع : ( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ، عليك توكلت ، وأنت رب العرش العظيم ) ، وقد تقدم وفيه : من قالها أول نهاره لم تصبه مصيبة حتى يمسي ، ومن قالها آخر نهاره لم تصبه مصيبة حتى يصبح . وكما في " الصحيحين " : ( من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ) .

وكما في " صحيح مسلم " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك ) .

وكما في " سنن أبي داود " : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في السفر يقول بالليل : " يا أرض ربي وربك الله ، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك ، وشر ما يدب عليك ، أعوذ بالله من أسد وأسود ، ومن الحية والعقرب ، ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد ) .

[ ص: 169 ] وأما الثاني : فكما تقدم من الرقية بالفاتحة ، والرقية للعقرب وغيرها مما يأتي .

التالي السابق


الخدمات العلمية