صفحة جزء
فصل

وأما هديه في الشراب ، فمن أكمل هدي يحفظ به الصحة ، فإنه كان يشرب العسل الممزوج بالماء البارد ، وفي هذا من حفظ الصحة ما لا يهتدي إلى معرفته إلا أفاضل الأطباء ، فإن شربه ولعقه على الريق يذيب البلغم ويغسل خمل المعدة ، ويجلو لزوجتها ، ويدفع عنها الفضلات، [ ص: 206 ] ويسخنها باعتدال ، ويفتح سددها ، ويفعل مثل ذلك بالكبد والكلى والمثانة ، وهو أنفع للمعدة من كل حلو دخلها ، وإنما يضر بالعرض لصاحب الصفراء لحدته وحدة الصفراء ، فربما هيجها، ودفع مضرته لهم بالخل ، فيعود حينئذ لهم نافعا جدا ، وشربه أنفع من كثير من الأشربة المتخذة من السكر أو أكثرها ، ولا سيما لمن لم يعتد هذه الأشربة ، ولا ألفها طبعه ، فإنه إذا شربها لا تلائمه ملاءمة العسل ، ولا قريبا منه ، والمحكم في ذلك العادة ، فإنها تهدم أصولا ، وتبني أصولا .

وأما الشراب إذا جمع وصفي الحلاوة والبرودة ، فمن أنفع شيء للبدن ، ومن أكبر أسباب حفظ الصحة ، وللأرواح والقوى والكبد والقلب عشق شديد له ، واستمداد منه ، وإذا كان فيه الوصفان ، حصلت به التغذية ، وتنفيذ الطعام إلى الأعضاء ، وإيصاله إليها أتم تنفيذ .

والماء البارد رطب يقمع الحرارة ، ويحفظ على البدن رطوباته الأصلية ، ويرد عليه بدل ما تحلل منها ، ويرقق الغذاء وينفذه في العروق .

واختلف الأطباء هل يغذي البدن ؟ على قولين : فأثبتت طائفة التغذية به بناء على ما يشاهدونه من النمو والزيادة والقوة في البدن به ، ولا سيما عند شدة الحاجة إليه .

قالوا : وبين الحيوان والنبات قدر مشترك من وجوه عديدة منها : النمو والاغتذاء والاعتدال ، وفي النبات قوة حس تناسبه ، ولهذا كان غذاء النبات بالماء ، فما ينكر أن يكون للحيوان به نوع غذاء ، وأن يكون جزءا من غذائه التام .

قالوا : ونحن لا ننكر أن قوة الغذاء ومعظمه في الطعام ، وإنما أنكرنا أن لا يكون للماء تغذية البتة . قالوا : وأيضا الطعام إنما يغذي بما فيه من المائية ، ولولاها لما حصلت به التغذية .

[ ص: 207 ] قالوا : ولأن الماء مادة حياة الحيوان والنبات ، ولا ريب أن ما كان أقرب إلى مادة الشيء ، حصلت به التغذية ، فكيف إذا كانت مادته الأصلية ، قال الله تعالى : ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) [ الأنبياء : 30 ] ، فكيف ننكر حصول التغذية بما هو مادة الحياة على الإطلاق ؟ .

قالوا : وقد رأينا العطشان إذا حصل له الري بالماء البارد ، تراجعت إليه قواه ونشاطه وحركته ، وصبر عن الطعام ، وانتفع بالقدر اليسير منه ، ورأينا العطشان لا ينتفع بالقدر الكثير من الطعام ، ولا يجد به القوة والاغتذاء ، ونحن لا ننكر أن الماء ينفذ الغذاء إلى أجزاء البدن ، وإلى جميع الأعضاء ، وأنه لا يتم أمر الغذاء إلا به ، وإنما ننكر على من سلب قوة التغذية عنه البتة ، ويكاد قوله عندنا يدخل في إنكار الأمور الوجدانية .

وأنكرت طائفة أخرى حصول التغذية به ، واحتجت بأمور يرجع حاصلها إلى عدم الاكتفاء به ، وأنه لا يقوم مقام الطعام ، وأنه لا يزيد في نمو الأعضاء ، ولا يخلف عليها بدل ما حللته الحرارة ، ونحو ذلك مما لا ينكره أصحاب التغذية ، فإنهم يجعلون تغذيته بحسب جوهره ، ولطافته ورقته ، وتغذية كل شيء بحسبه ، وقد شوهد الهواء الرطب البارد اللين اللذيذ يغذي بحسبه ، والرائحة الطيبة تغذي نوعا من الغذاء ، فتغدية الماء أظهر وأظهر .

والمقصود : أنه إذا كان باردا ، وخالطه ما يحليه كالعسل أو الزبيب ، أو التمر أو السكر ، كان من أنفع ما يدخل البدن ، وحفظ عليه صحته ، فلهذا كان أحب الشراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البارد الحلو . والماء الفاتر ينفخ ، ويفعل ضد هذه الأشياء .

ولما كان الماء البائت أنفع من الذي يشرب وقت استقائه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم : وقد دخل إلى حائط أبي الهيثم بن التيهان : ( هل من ماء بات في [ ص: 208 ] شنة ؟ " فأتاه به فشرب منه ) ، رواه البخاري ، ولفظه : ( إن كان عندك ماء بات في شنة وإلا كرعنا ) .

والماء البائت بمنزلة العجين الخمير ، والذي شرب لوقته بمنزلة الفطير ، وأيضا فإن الأجزاء الترابية والأرضية تفارقه إذا بات ، وقد ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( كان يستعذب له الماء ، ويختار البائت منه ) . وقالت عائشة : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستقى له الماء العذب من بئر السقيا ) .

والماء الذي في القرب والشنان ، ألذ من الذي يكون في آنية الفخار والأحجار وغيرهما ، ولا سيما أسقية الأدم ، ولهذا التمس النبي - صلى الله عليه وسلم - ماء بات في شنة دون غيرها من الأواني ، وفي الماء إذا وضع في الشنان وقرب الأدم خاصة لطيفة لما فيها من المسام المنفتحة التي يرشح منها الماء ، ولهذا كان الماء في الفخار الذي يرشح ألذ منه ، وأبرد في الذي لا يرشح ، فصلاة الله وسلامه على أكمل الخلق ، وأشرفهم نفسا ، وأفضلهم هديا في كل شيء ، لقد دل أمته على أفضل الأمور وأنفعها لهم في القلوب والأبدان ، والدنيا والآخرة .

قالت عائشة : كان أحب الشراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( الحلو البارد ) . وهذا يحتمل أن يريد به الماء العذب ، كمياه العيون والآبار [ ص: 209 ] الحلوة ، فإنه كان يستعذب له الماء . ويحتمل أن يريد به الماء الممزوج بالعسل ، أو الذي نقع فيه التمر أو الزبيب . وقد يقال - وهو الأظهر - : يعمهما جميعا .

وقوله في الحديث الصحيح : ( إن كان عندك ماء بات في شن وإلا كرعنا ) ، فيه دليل على جواز الكرع ، وهو الشرب بالفم من الحوض والمقراة ونحوها ، وهذه - والله أعلم - واقعة عين دعت الحاجة فيها إلى الكرع بالفم ، أو قاله مبينا لجوازه ، فإن من الناس من يكرهه ، والأطباء تكاد تحرمه ، ويقولون : إنه يضر بالمعدة ، وقد روي في حديث لا أدري ما حاله عن ابن عمر ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن نشرب على بطوننا ، وهو الكرع ، ونهانا أن نغترف باليد الواحدة ، وقال : ( لا يلغ أحدكم كما يلغ الكلب ، ولا يشرب بالليل من إناء حتى يختبره إلا أن يكون مخمرا ) .

وحديث البخاري أصح من هذا ، وإن صح فلا تعارض بينهما ، إذ لعل الشرب باليد لم يكن يمكن حينئذ ، فقال : وإلا كرعنا ، والشرب بالفم إنما يضر إذا انكب الشارب على وجهه وبطنه ، كالذي يشرب من النهر والغدير ، فأما إذا شرب منتصبا بفمه من حوض مرتفع ونحوه ، فلا فرق بين أن يشرب بيده أو بفمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية