صفحة جزء
وإن كان الوصال متعذرا شرعا لا قدرا ، فعلاجه بأن ينزله منزلة المتعذر قدرا ، إذ ما لم يأذن فيه الله ، فعلاج العبد ونجاته موقوف على اجتنابه ، فليشعر نفسه أنه معدوم ممتنع لا سبيل له إليه ، وأنه بمنزلة سائر المحالات ، فإن لم تجبه النفس الأمارة ، فليتركه لأحد أمرين : إما خشية ، وإما فوات محبوب هو أحب إليه ، وأنفع له ، وخير له منه ، وأدوم لذة وسرورا ، فإن العاقل متى وازن بين نيل محبوب سريع الزوال بفوات محبوب أعظم منه ، وأدوم ، وأنفع وألذ ، أو بالعكس ، ظهر له التفاوت ، فلا تبع لذة الأبد التي لا خطر لها بلذة ساعة تنقلب آلاما ، وحقيقتها أنها أحلام نائم ، أو خيال لا ثبات له ، فتذهب اللذة ، وتبقى التبعة ، وتزول الشهوة ، وتبقى الشقوة .

الثاني : حصول مكروه أشق عليه من فوات هذا المحبوب ، بل يجتمع له الأمران ، أعني : فوات ما هو أحب إليه من هذا المحبوب ، وحصول ما هو أكره إليه من فوات هذا المحبوب ، فإذا تيقن أن في إعطاء النفس حظها من هذا المحبوب هذين الأمرين ، هان عليه تركه ، ورأى أن صبره على فوته أسهل من صبره عليهما بكثير ، فعقله ودينه ، ومروءته وإنسانيته ، تأمره باحتمال الضرر [ ص: 252 ] اليسير الذي ينقلب سريعا لذة وسرورا وفرحا لدفع هذين الضررين العظيمين . وجهله وهواه ، وظلمه وطيشه ، وخفته يأمره بإيثار هذا المحبوب العاجل بما فيه جالبا عليه ما جلب ، والمعصوم من عصمه الله .

فإن لم تقبل نفسه هذا الدواء ، ولم تطاوعه لهذه المعالجة ، فلينظر ما تجلب عليه هذه الشهوة من مفاسد عاجلته ، وما تمنعه من مصالحها ، فإنها أجلب شيء لمفاسد الدنيا ، وأعظم شيء تعطيلا لمصالحها ، فإنها تحول بين العبد وبين رشده الذي هو ملاك أمره ، وقوام مصالحه .

فإن لم تقبل نفسه هذا الدواء ، فليتذكر قبائح المحبوب ، وما يدعوه إلى النفرة عنه ، فإنه إن طلبها وتأملها ، وجدها أضعاف محاسنه التي تدعو إلى حبه ، وليسأل جيرانه عما خفي عليه منها ، فإنها المحاسن، كما هي داعية الحب والإرادة ، فالمساوئ داعية البغض والنفرة ، فليوازن بين الداعيين ، وليحب أسبقهما وأقربهما منها بابا ، ولا يكن ممن غره لون جمال على جسم أبرص مجذوم، وليجاوز بصره حسن الصورة إلى قبح الفعل ، وليعبر من حسن المنظر والجسم إلى قبح المخبر والقلب .

فإن عجزت عنه هذه الأدوية كلها لم يبق له إلا صدق اللجأ إلى من يجيب المضطر إذا دعاه ، وليطرح نفسه بين يديه على بابه مستغيثا به ، متضرعا متذللا ، مستكينا ، فمتى وفق لذلك فقد قرع باب التوفيق ، فليعف وليكتم ، ولا يشبب بذكر المحبوب ، ولا يفضحه بين الناس ويعرضه للأذى ، فإنه يكون ظالما معتديا .

التالي السابق


الخدمات العلمية