صفحة جزء
كمأة : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين ) أخرجاه في " الصحيحين " .

[ ص: 330 ] قال ابن الأعرابي : الكمأة : جمع ، واحده كمء وهذا خلاف قياس العربية ، فإن ما بينه وبين واحده التاء ، فالواحد منه التاء ، وإذا حذفت كان للجمع . وهل هو جمع ، أو اسم جمع ؟ على قولين مشهورين : قالوا : ولم يخرج عن هذا إلا حرفان : كمأة وكمء ، وجبأة وجبء ، وقال غير ابن الأعرابي : بل هي على القياس : الكمأة للواحد ، والكمء للكثير ، وقال غيرهما : الكمأة تكون واحدا وجمعا .

واحتج أصحاب القول الأول بأنهم قد جمعوا كمئا على أكمؤ ، قال الشاعر :


ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ولقد نهيتك عن بنات الأوبر



وهذا يدل على أن " كمئا " مفرد " وكمأة " جمع .

والكمأة تكون في الأرض من غير أن تزرع ، وسميت كمأة لاستتارها ، ومنه كمأ الشهادة ، إذا سترها وأخفاها ، والكمأة مخفية تحت الأرض لا ورق لها ولا ساق ، ومادتها من جوهر أرضي بخاري محتقن في الأرض نحو سطحها يحتقن ببرد الشتاء ، وتنميه أمطار الربيع ، فيتولد ويندفع نحو سطح الأرض متجسدا ، ولذلك يقال لها : جدري الأرض ، تشبيها بالجدري في صورته ومادته ، لأن مادته رطوبة دموية ، فتندفع عند سن الترعرع في الغالب ، وفي ابتداء استيلاء الحرارة ، ونماء القوة .

وهي مما يوجد في الربيع ، ويؤكل نيئا ومطبوخا ، وتسميها العرب : نبات [ ص: 331 ] الرعد لأنها تكثر بكثرته ، وتنفطر عنها الأرض ، وهي من أطعمة أهل البوادي ، وتكثر بأرض العرب ، وأجودها ما كانت أرضها رملية قليلة الماء .

وهي أصناف : منها صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة يحدث الاختناق .

وهي باردة رطبة في الدرجة الثالثة ، رديئة للمعدة ، بطيئة الهضم ، وإذا أدمنت أورثت القولنج والسكتة والفالج ، ووجع المعدة ، وعسر البول ، والرطبة أقل ضررا من اليابسة ، ومن أكلها فليدفنها في الطين الرطب ، ويسلقها بالماء والملح والصعتر ، ويأكلها بالزيت والتوابل الحارة ، لأن جوهرها أرضي غليظ ، وغذاؤها رديء لكن فيها جوهر مائي لطيف يدل على خفتها ، والاكتحال بها نافع من ظلمة البصر والرمد الحار ، وقد اعترف فضلاء الأطباء بأن ماءها يجلو العين ، وممن ذكره المسيحي وصاحب القانون وغيرهما .

وقوله صلى الله عليه وسلم ( الكمأة من المن ) فيه قولان :

أحدهما : أن المن الذي أنزل على بني إسرائيل لم يكن هذا الحلو فقط ، بل أشياء كثيرة من الله عليهم بها من النبات الذي يوجد عفوا من غير صنعة ولا علاج ولا حرث ، فإن المن مصدر بمعنى المفعول ، أي " ممنون " به فكل ما رزقه الله العبد عفوا بغير كسب منه ولا علاج ، فهو من محض ، وإن كانت سائر نعمه منا منه على عبده فخص منها ما لا كسب له فيه ولا صنع باسم المن ، فإنه من بلا واسطة العبد ، وجعل سبحانه قوتهم بالتيه الكمأة ، وهي تقوم مقام الخبز ، وجعل أدمهم السلوى ، وهو يقوم مقام اللحم ، وجعل حلواهم الطل الذي ينزل على الأشجار يقوم لهم مقام الحلوى فكمل عيشهم .

وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم : ( الكمأة من المن الذي أنزله الله على بني إسرائيل ) فجعلها من جملته وفردا من أفراده ، والترنجبين الذي يسقط على الأشجار نوع من [ ص: 332 ] المن ، ثم غلب استعمال المن عليه عرفا حادثا .

والقول الثاني : أنه شبه الكمأة بالمن المنزل من السماء ، لأنه يجمع من غير تعب ولا كلفة ولا زرع بزر ولا سقي .

فإن قلت : فإن كان هذا شأن الكمأة فما بال هذا الضرر فيها ، ومن أين أتاها ذلك ؟ فاعلم أن الله سبحانه أتقن كل شيء صنعه ، وأحسن كل شيء خلقه ، فهو عند مبدأ خلقه بريء من الآفات والعلل ، تام المنفعة لما هيئ وخلق له ، وإنما تعرض له الآفات بعد ذلك بأمور أخر من مجاورة أو امتزاج واختلاط ، أو أسباب أخر تقتضي فساده ، فلو ترك على خلقته الأصلية من غير تعلق أسباب الفساد به لم يفسد .

ومن له معرفة بأحوال العالم ومبدئه يعرف أن جميع الفساد في جوه ونباته وحيوانه ، وأحوال أهله حادث بعد خلقه بأسباب اقتضت حدوثه ، ولم تزل أعمال بني آدم ومخالفتهم للرسل تحدث لهم من الفساد العام والخاص ما يجلب عليهم من الآلام والأمراض ، والأسقام ، والطواعين ، والقحوط والجدوب ، وسلب بركات الأرض وثمارها ونباتها وسلب منافعها أو نقصانها أمورا متتابعة يتلو بعضها بعضا ، فإن لم يتسع علمك لهذا فاكتف بقوله تعالى : ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) [ الروم : 41 ] ونزل هذه الآية على أحوال العالم وطابق بين الواقع وبينها ، وأنت ترى كيف تحدث الآفات والعلل كل وقت في الثمار والزرع والحيوان ، وكيف يحدث من تلك الآفات آفات أخر متلازمة ، بعضها آخذ برقاب بعض ، وكلما أحدث الناس ظلما وفجورا ، أحدث لهم ربهم تبارك وتعالى من الآفات والعلل في أغذيتهم وفواكههم ، وأهويتهم ومياههم ، وأبدانهم وخلقهم ، وصورهم وأشكالهم وأخلاقهم من النقص والآفات ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم .

[ ص: 333 ] ولقد كانت الحبوب من الحنطة وغيرها أكبر مما هي اليوم ، كما كانت البركة فيها أعظم .

وقد روى الإمام أحمد بإسناده : أنه وجد في خزائن بعض بني أمية صرة فيها حنطة أمثال نوى التمر مكتوب عليها : هذا كان ينبت أيام العدل . وهذه القصة ، ذكرها في " مسنده " على أثر حديث رواه .

وأكثر هذه الأمراض والآفات العامة بقية عذاب عذبت به الأمم السالفة ، ثم بقيت منها بقية مرصدة لمن بقيت عليه بقية من أعمالهم ، حكما قسطا ، وقضاء عدلا ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله في الطاعون : ( إنه بقية رجز أو عذاب أرسل على بني إسرائيل ) .

وكذلك سلط الله سبحانه وتعالى الريح على قوم سبع ليال وثمانية أيام ، ثم أبقى في العالم منها بقية في تلك الأيام ، وفي نظيرها عظة وعبرة .

وقد جعل الله سبحانه أعمال البر والفاجر مقتضيات لآثارها في هذا العالم اقتضاء لا بد منه ، فجعل منع الإحسان والزكاة والصدقة سببا لمنع الغيث من السماء ، والقحط والجدب ، وجعل ظلم المساكين ، والبخس في المكاييل والموازين ، وتعدي القوي على الضعيف سببا لجور الملوك والولاة الذين لا [ ص: 334 ] يرحمون إن استرحموا ، ولا يعطفون إن استعطفوا ، وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ظهرت في صور ولاتهم فإن الله سبحانه بحكمته وعدله يظهر للناس أعمالهم في قوالب وصور تناسبها ، فتارة بقحط وجدب ، وتارة بعدو ، وتارة بولاة جائرين ، وتارة بأمراض عامة ، وتارة بهموم وآلام وغموم تحضرها نفوسهم لا ينفكون عنها ، وتارة بمنع بركات السماء والأرض عنهم ، وتارة بتسليط الشياطين عليهم تؤزهم إلى أسباب العذاب أزا لتحق عليهم الكلمة ، وليصير كل منهم إلى ما خلق له ، والعاقل يسير بصيرته بين أقطار العالم فيشاهده ، وينظر مواقع عدل الله وحكمته ، وحينئذ يتبين له أن الرسل وأتباعهم خاصة على سبيل النجاة ، وسائر الخلق على سبيل الهلاك سائرون ، وإلى دار البوار صائرون ، والله بالغ أمره ، لا معقب لحكمه ، ولا راد لأمره وبالله التوفيق .

وقوله صلى الله عليه وسلم في الكمأة : ( وماؤها شفاء للعين ) فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أن ماءها يخلط في الأدوية التي يعالج بها العين ، لا أنه يستعمل وحده ذكره أبو عبيد .

الثاني : أنه يستعمل بحتا بعد شيها ، واستقطار مائها ، لأن النار تلطفه وتنضجه ، وتذيب فضلاته ورطوبته المؤذية ، وتبقي المنافع .

الثالث : أن المراد بمائها الماء الذي يحدث به من المطر ، وهو أول قطر ينزل إلى الأرض ، فتكون الإضافة إضافة اقتران لا إضافة جزء ، ذكره ابن الجوزي ، وهو أبعد الوجوه وأضعفها .

وقيل : إن استعمل ماؤها لتبريد ما في العين ، فماؤها مجردا شفاء ، وإن كان لغير ذلك ، فمركب مع غيره .

وقال الغافقي : ماء الكمأة أصلح الأدوية للعين إذا عجن به الإثمد واكتحل به ، ويقوي أجفانها ، ويزيد الروح الباصرة قوة وحدة ، ويدفع عنها نزول النوازل .

التالي السابق


الخدمات العلمية