صفحة جزء
والأحاديث في هذا كثيرة ، مثل ما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر . وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 271 ] ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة . وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة " . وفي رواية : لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به بقدر غدرته ، ألا ولا غادر أعظم غدرة من أمير عامة . وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ، وفيمن معه من المسلمين خيرا " ثم قال : اغزوا باسم الله وفي سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا . وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو : خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم " الحديث . فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول .

وفي الصحيحين عن ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب لما سأله هرقل عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم : هل يغدر ؟ فقال : لا يغدر ، ونحن معه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها . قال : ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة . وقال هرقل في جوابه : سألتك هل يغدر ؟ فذكرت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر " ، فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين .

وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أحق الشروط أن توفوا به : ما استحللتم به الفروج " ، فدل على [ ص: 272 ] استحقاق الشروط بالوفاء ، وأن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها .

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره " . فذم الغادر ، وكل من شرط شرطا ثم نقضه فقد غدر .

فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود ، وبأداء الأمانة ورعاية ذلك ، والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة والتشديد على من يفعل ذلك .

ولما كان الأصل فيها الحظر والفساد ، إلا ما أباحه الشرع لم يجز أن يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا ، كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه لم يجز أن يؤمر بقتل النفس ويحمل على القدر المباح ، بخلاف ما كان جنسه واجبا ، كالصلاة والزكاة ، فإنه يؤمر به مطلقا . وإن كان لذلك شروط وموانع فينهى عن الصلاة بغير طهارة ، وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك . وكذلك الصدق في الحديث مأمور به ، وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض ويجب السكوت أو التعريض .

وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورا به علم أن الأصل صحة العقود والشروط ، إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده . ومقصود العقد : هو الوفاء به ، فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود ، دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة .

وقد روى أبو داود والدارقطني من حديث سليمان بن بلال ، [ ص: 273 ] حدثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصلح جائز بين المسلمين ، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا ، والمسلمون على شروطهم " . وكثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية : هو ثقة ، وضعفه في رواية أخرى .

وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الصلح جائز بين المسلمين ، إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما ، [ والمسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا ] ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وروى ابن ماجه منه اللفظ الأول ، لكن كثير بن عمرو ضعفه الجماعة . وضرب أحمد على حديثه في المسند فلم يحدث به . فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه . وقد روى أبو بكر البزار أيضا عن محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الناس على شروطهم ما وافق الحق " ، وهذه الأسانيد - وإن كان الواحد منها ضعيفا - فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا .

وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة ، وهو حقيقة [ ص: 274 ] المذهب ، فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا يحرم ما أباحه الله ، فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله . وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله ، وإنما المشترط له أن يكون يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه . فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما ، وعدم الإيجاب ليس نفيا للإيجاب ، حتى يكون المشترط مناقضا للشرع ، وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا . فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الإقباض ما لم يكن واجبا ويباح أيضا لكل منهما ما لم يكن مباحا ، ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما . وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين . وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهنا أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها ، فإنه يجب ، ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك .

وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصل فساد الشروط ، قال : لأنها إما أن تبيح حراما أو تحرم حلالا أو توجب ساقطا أو تسقط واجبا ، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع ، وأوردت شبهة عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض ، وليس كذلك ، بل كل ما كان حراما بدون الشرط ، فالشرط لا يبيحه كالربا وكالوطء في ملك الغير ، وكثبوت الولاء لغير المعتق ، فإن الله حرم الوطء إلا بملك نكاح ، أو ملك يمين ، فلو أراد رجل أن يعير أمته لآخر للوطء لم يجز له ذلك ، بخلاف إعارتها للخدمة فإنه جائز ، وكذلك الولاء ، فقد " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته " ، وجعل الله الولاء كالنسب يثبت للمعتق كما يثبت النسب للوالد . وقال صلى الله عليه وسلم : من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا [ ص: 275 ] يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، وأبطل الله ما كانوا عليه في الجاهلية من تبني الرجل ابن غيره ، وانتساب المعتق إلى غير مولاه . فهذا أمر لا يجوز فعله بغير شرط ، فلا يبيح الشرط منه ما كان حراما ، وأما ما كان مباحا بدون الشرط فالشرط يوجبه ، كالزيادة في المهر والثمن والرهن وتأخير الاستيفاء . فإن الرجل له أن يعطي المرأة ، وله أن يتبرع بالرهن وبالإنظار ، ونحو ذلك ، فإذا شرطه صار واجبا ، وإذا وجب فقد حرمت المطالبة التي كانت حلالا بدونه ، لأن المطالبة لم تكن حلالا مع عدم الشرط . فإن الشارع لم يبح مطالبة المدين مطلقا فما كان حلالا وحراما مطلقا فالشرط لا يغيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية