صفحة جزء
نعم من غلب على ظنه من الفقهاء انتفاء المعارض في مسألة [ ص: 291 ] خلافية أو حادثة انتفع بهذه القاعدة ، فنذكر من أنواعها قواعد حكمية مطلقة .

فمن ذلك : ما ذكرناه من أنه يجوز لكل من أخرج عينا من ملكه بمعاوضة كالبيع والخلع ، أو تبرع كالوقف والعتق أن يستثني بعض منافعها . فإذا كان مما لا يصلح فيه [ الغرر ] كالبيع - فلا بد أن يكون المستثنى معلوما ، لما روى البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي عن جابر قال : " بعته - يعني بعيره - من النبي صلى الله عليه وسلم ، واشترطت حملانه إلى أهلي " ، وإن لم يكن كذلك كالعتق والوقف ، فله أن يستثني خدمة العبد ما عاش سيده ، أو عاش فلان ، ويستثني غلة الوقف ما عاش الواقف .

ومن ذلك : أن البائع إذا شرط على المشتري أن يعتق العبد صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما ، لحديث بريرة ، وإن كان عنهما قول بخلافه .

ثم هل يصير العتق واجبا على المشتري ، كما يجب العتق بالنذر بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع ، أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه من العتق ، كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في المبيع ؟ على وجهين في مذهبهما . ثم الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجا عن القياس ، لما فيه من منع المشتري من التصرف في ملكه بغير العتق ، وذلك مخالف لمقتضى العقد ، فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف مطلقا .

قالوا : وإنما جوزته السنة ؛ لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا [ ص: 292 ] يوجد في غيره ، ولذلك أوجب فيه السراية ، مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره ، وإذا كان مبناه على التغليب والسراية والنفوذ في ملك الغير لم يلحق به غيره ، فلا يجوز اشتراط غيره .

وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح ، وإن كان فيه منع من غيره . قال ابن القاسم : قيل لأحمد : الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها ، فأجازه . فقيل له : فإن هؤلاء - يعني أصحاب أبي حنيفة - يقولون : لا يجوز البيع على هذا الشرط ، قال : لم لا يجوز ؟ قد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم بعير جابر واشترط ظهره إلى المدينة واشترت عائشة بريرة على أن تعتقها ، فلم لا يجوز هذا ؟ قال : وإنما هذا شرط واحد ، والنهي إنما هو عن شرطين ، قيل له : فإن شرط شرطين أيجوز ؟ قال : لا يجوز .

فقد نازع من منع منه ، واستدل على جوازه باشتراط النبي صلى الله عليه وسلم ظهر البعير لجابر ، وبحديث بريرة ، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن شرطين في بيع ، مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع . وهو نقص لموجب العقد المطلق ، واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقص موجب العقد المطلق .

فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقص في التصرف أو في المملوك ، واستدلاله بحديث الشرطين دليل على جواز هذا الجنس كله ، ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره ، ولا استدل عليه بما يشمله وغيره .

وكذلك قال أحمد بن الحسين بن حسان : سألت أبا عبد الله [ ص: 293 ] عمن اشترى مملوكا واشترط : هو حر بعد موتي ؟ قال : هذا مدبر ، فجوز اشتراط التدبير كالعتق . ولأصحاب الشافعي في شرط التدبير خلاف صحح الرافعي أنه لا يصح .

وكذلك جوز اشتراط التسري ، فقال أبو طالب : سألت أحمد عن رجل اشترى جارية بشرط أن يتسرى بها ، تكون نفيسة ، يحب أهلها أن يتسرى بها ، ولا تكون للخدمة ؟ قال : لا بأس به .

[ فلما ] كان التسري [ للبائع وللجارية ] فيه مقصود صحيح جوزه .

وكذلك جوز أن يشترط بائع الجارية ونحوها على المشتري أنه لا يبيعها لغير البائع ، وأن البائع يأخذها إذا أراد المشتري بيعها بالثمن الأول ، كما رووه عن عمر وابن مسعود وامرأته زينب .

وجماع ذلك : أن المبيع الذي يدخل في مطلق العقد بأجزائه ومنافعه يملكان اشتراط الزيادة عليه . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ، فجوز للمشتري اشتراط زيادة على موجب العقد المطلق ، وهو جائز بالإجماع . ويملكان اشتراط النقص منه بالاستثناء كما " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثنيا إلا أن تعلم " ، فدل على جوازها إذا علمت . وكما استثنى جابر ظهر بعيره إلى المدينة .

وقد أجمع المسلمون فيما أعلمه على جواز استثناء الجزء [ ص: 294 ] الشائع ، مثل : أن يبيعه الدار إلا ربعها أو ثلثها ، واستثناء الجزء المعين إذا أمكن فصله بغير ضرر . مثل : أن يبيعه ثمر البستان إلا نخلات بعينها ، أو الثياب أو العبيد ، أو الماشية التي قد رأياها ، إلا شيئا منها قد عيناه .

واختلفوا في استثناء بعض المنفعة ، كسكنى الدار شهرا ، أو استخدام العبد شهرا ، أو ركوب الدابة مدة معينة ، أو إلى بلد بعينه ، مع اتفاق الفقهاء المشهورين وأتباعهم وجمهور الصحابة على أن ذلك قد [ يقع ] ، كما إذا اشترى أمة مزوجة فإن منفعة بضعها التي يملكها الزوج لم تدخل في العقد ، كما اشترت عائشة بريرة وكانت مزوجة . لكن هي اشترتها بشرط العتق ، فلم تملك التصرف فيها إلا بالعتق ، والعتق لا ينافي نكاحها . فلذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما - وهو ممن روى حديث بريرة - يرى أن بيع الأمة طلاقها مع طائفة من الصحابة ؛ تأويلا لقوله تعالى : ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ) [ النساء : 24 ] ، قالوا : فإذا ابتاعها أو اتهبها أو ورثها فقد ملكتها يمينه ، فتباح له ، ولا يكون ذلك إلا بزوال ملك الزوج . واحتج بعض الفقهاء على ذلك بحديث بريرة .

فلم يرض أحمد هذه الحجة ؛ لأن ابن عباس رواه وخالفه . وذلك - والله أعلم - لما ذكرته من أن عائشة لم تملك بريرة ملكا مطلقا .

التالي السابق


الخدمات العلمية