صفحة جزء
ثم الفقهاء قاطبة وجمهور الصحابة على أن الأمة المزوجة إذا انتقل الملك فيها - ببيع أو هبة أو إرث أو نحو ذلك ، وكان مالكها معصوم الملك - لم يزل عنها ملك الزوج ، وملكها المشتري ونحوه إلا منفعة البضع .

[ ص: 295 ] ومن حجتهم : أن البائع نفسه لو أراد أن يزيل ملك الزوج لم يمكنه ذلك ، فالمشتري الذي هو دون البائع لا يكون أقوى منه ، ولا يكون الملك الثابت للمشتري أتم من البائع ، والزوج معصوم لا يجوز الاستيلاء على حقه ، بخلاف المسبية ، فإن فيها خلافا ليس هذا موضعه ؛ لكون أهل الحرب تباح دماؤهم وأموالهم ، وكذلك ما ملكوه من الأبضاع .

وكذلك فقهاء الحديث وأهل الحجاز متفقون على أنه إذا باع شجرا قد بدا ثمره - كالنخل المؤبر - فثمره للبائع مستحق الإبقاء إلى كمال صلاحه ، فيكون البائع قد استثنى منفعة الشجر إلى كمال الصلاح . وكذلك بيع العين المؤجرة - كالدار والعبد - عامتهم يجوزه ، ويملكه المشتري دون المنفعة التي للمستأجر .

[ ففقهاء الحديث ] كأحمد وغيره يجوزون استثناء بعض منفعة العقد كما في صور الوفاق ، [ وكاستثناء ] بعض أجزائه معينا ومشاعا ، وكذلك يجوزون استثناء بعض أجزائه معينا ، إذا كانت العادة جارية بفصله كبيع الشاة واستثناء بعضها ، كسواقطها من الرأس والجلد والأكارع . وكذلك الإجارة فإن العقد المطلق يقتضي نوعا من الانتفاع في الإجارات المقدرة بالزمان ، كما لو استأجر أرضا للزرع ، أو حانوتا لتجارة فيه أو صناعة ، أو أجيرا لخياطة أو بناء ونحو ذلك ، فإنه لو زاد على موجب العقد المطلق أو نقص عنه : فإنه يجوز بغير خلاف أعلمه في النكاح ، فإن العقد المطلق يقتضي ملك الاستمتاع المطلق الذي يقتضيه العرف حيث شاء ومتى شاء ، فينقلها [ ص: 296 ] إلى حيث شاء إذا لم يكن فيه ضرر إلا ما استثني من الاستمتاع المحرم [ أو كان فيه ضرر فإن العرف لا يقتضيه ويقتضي ملكا للمهر ] الذي هو مهر المثل ، وملكها للاستمتاع في الجملة ، فإنه لو كان مجبوبا أو عنينا ثبت لها الفسخ عند السلف والفقهاء المشاهير ، ولو آلى منها ثبت لها فراقه إذا لم يفئ بالكتاب والإجماع ، وإن كان من الفقهاء من لا يوجب عليه الوطء وقسم الابتداء ، بل يكتفي بالباعث الطبيعي ، كمذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد ، فإن الصحيح من وجوه كثيرة : أنه يجب عليه الوطء والقسم كما دل عليه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والاعتبار . [ وهل ] : يتقدر الوطء الواجب بمرة كل أربعة أشهر ، اعتبارا بالإيلاء ، [ أو يجب ] أن يطأها بالمعروف كما ينفق عليها بالمعروف ؟ فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره . والصحيح الذي يدل عليه أكثر نصوص أحمد ، وعليه أكثر السلف : أن ما يوجبه العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر كالنفقة والاستمتاع والمبيت للمرأة وكالاستمتاع للزوج ، ليس بمقدر ، بل المرجع في ذلك إلى العرف ، كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى : ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) ، والسنة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف . وإذا تنازع الزوجان فيه فرض الحاكم باجتهاده ، كما فرضت الصحابة مقدار الوطء للزوج بمرات معدودة ، ومن قدر من أصحاب أحمد الوطء المستحق ، فهو [ ص: 297 ] كتقدير الشافعي النفقة ، إذ كلاهما تحتاجه المرأة ويوجبه العقد . وتقدير ذلك ضعيف عند عامة الفقهاء ، بعيد عن معاني الكتاب والسنة والاعتبار . والشافعي إنما قدره طردا للقاعدة التي ذكرناها عنه من نفيه للجهالة في جميع العقود قياسا على المنع من بيع الغرر ، فجعل النفقة المستحقة بعقد النكاح مقدرة طردا لذلك . وقد تقدم التنبيه على هذا الأصل .

وكذلك يوجب العقد المطلق سلامة الزوج من الجب والعنة عند عامة الفقهاء ، وكذلك يوجب عند الجمهور سلامتها من موانع الوطء كالرتق ، وسلامتها من الجنون والجذام والبرص . وكذلك سلامتها من العيوب التي تمنع كماله ، كخروج النجاسات منه أو منها ونحو ذلك ، في أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره ، دون الجمال ونحو ذلك . وموجبه : كفاءة الرجل أيضا دون ما زاد على ذلك .

ثم لو شرط أحد الزوجين في الآخر صفة مقصودة كالمال والجمال والبكارة ونحو ذلك ، صح ذلك ، وملك المشترط الفسخ عند فواته ، في أصح الروايتين عند أحمد ، وأصح وجهي أصحاب الشافعي وظاهر مذهب مالك . والرواية الأخرى : لا يملك الفسخ إلا في شرط الحرية والدين . وفي شرط النسب على هذه الرواية وجهان ، سواء كان المشترط هو المرأة في الرجل ، أو الرجل في المرأة . بل اشتراط المرأة في الرجل أوكد باتفاق الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم . وما ذكره بعض أصحاب أحمد بخلاف ذلك لا أصل له .

وكذلك لو اشترط بعض الصفة المستحقة بمطلق العقد ، مثل أن [ ص: 298 ] يشترط الزوج أنه مجبوب أو عنين ، أو المرأة أنها رتقاء أو مجنونة ، صح هذا الشرط باتفاق الفقهاء . فقد اتفقوا على صحة الشرط الناقص عن موجب العقد واختلفوا في شرط الزيادة عليه في هذا الموضع ، كما ذكرته لك . فإن مذهب أبي حنيفة : أنه لا يثبت للرجل خيار عيب ولا شرط في النكاح . وأما المهر : فإنه لو زاد على مهر المثل أو نقص جاز بالاتفاق .

كذلك يجوز أكثر السلف - أو كثير منهم - وفقهاء الحديث ومالك - في إحدى الروايتين - أن ينقص ملك الزوج ، فتشترط عليه أن لا ينقلها من بلدها أو من دارها ، وأن يزيدها على ما تملكه بالمطلق [ كقصره ] عليها نفسه فلا يتزوج عليها ولا يتسرى ، وعند طائفة من السلف وأبي حنيفة والشافعي ومالك في الرواية الأخرى : لا يصح هذا الشرط ، لكنه له عند أبي حنيفة والشافعي أثر في تسمية المهر .

والقياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث أن اشتراط الزيادة على مطلق العقد واشتراط النقص جائز ما لم يمنع منه الشرع ، فإذا كانت الزيادة في العين أو المنفعة المعقود عليها ، والنقص من ذلك ما ذكرت ، فالزيادة في الملك المستحق بالعقد والنقص منه كذلك . فإذا شرط على المشتري أن يعتق العبد أو يقف العين على البائع أو غيره ، أو أن يقضي بالعين دينا عليه لمعين أو غير معين ، أو أن يصل به رحمه ونحو ذلك ، فهو اشتراط تصرف مقصود ، ومثله التبرع المفروض والتطوع .

وأما التفريق بين العتق وغيره بما في العتق من الفضل الذي [ ص: 299 ] يتشوفه الشارع فضعيف ، فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه فإن صلة ذي الرحم المحتاج أفضل منه ، كما نص عليه أحمد . فإن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أعتقت جارية لها فقال النبي صلى الله عليه سلم : لو تركتيها لأخوالك لكان خيرا لك ، ولهذا لو كان للميت أقارب لا يرثون كانت الوصية لهم أولى من الوصية بالعتق . وما أعلم في هذا خلافا ، وإنما أعلم الاختلاف في وجوب الوصية لهم ، فإن فيه عن أحمد روايتين ، إحداهما : تجب ، كقول طائفة من السلف والخلف . والثانية : لا تجب ، كقول الفقهاء الثلاثة وغيرهم . ولو وصى لغيرهم دونهم فهل [ تصرف ] تلك الوصية على أقاربه دون الموصى له ، أو يعطى ثلثها للموصى له وثلثاها لأقاربه ، كما تقسم التركة بين الورثة والموصى له ؟ على روايتين عن أحمد . وإن كان المشهور عند أكثر أصحابه : هو القول بنفوذ الوصية . فإذا كان بعض التبرعات أفضل من العتق لم يصح تعليله باختصاصه بمزيد الفضيلة .

وأيضا فقد يكون المشروط على المشتري أفضل كما لو كان عليه دين لله من زكاة أو كفارة أو نذر أو دين لآدمي ، فاشترط عليه وفاء دينه من ذلك المبيع ، أو اشترط المشتري على البائع وفاء الدين الذي عليه من الثمن ونحو ذلك ، فهذا أوكد من اشتراط العتق .

وأما السراية فإنما كانت لتكميل الحرية . وقد شرع مثل ذلك في الأموال ، وهو حق الشفعة فإنها شرعت لتكميل الملك [ للشفيع ] ، لما في الشركة من الضرار . ونحن نقول : شرع ذلك في جميع [ ص: 300 ] المشاركات فيمكن الشريك من المقاسمة . فإن أمكن قسمة العين ، وإلا قسمنا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك . فتكميل العتق نوع من ذلك ، إذ الشركة تزول بالقسمة تارة ، وبالتكميل أخرى .

وأصل ذلك : أن الملك هو القدرة الشرعية على التصرف [ في الرقبة ] ، بمنزلة القدرة الحسية ، فيمكن أن تثبت القدرة على تصرف دون تصرف شرعا ، كما يثبت ذلك حسا . ولهذا جاء الملك في الشرع أنواعا ، كما أن القدرة تتنوع أنواعا . فالملك التام يملك فيه التصرف في الرقبة بالبيع والهبة ، ويورث عنه ، ويملك التصرف في منافعه بالإعارة والإجارة والانتفاع وغير ذلك ، ثم قد يملك الأمة المجوسية ، أو المحرمات عليه بالرضاع ، فلا يملك منهن الاستمتاع ، ويملك المعاوضة عليه بالتزويج ، بأن يزوج المجوسية المجوسي مثلا ، وقد يملك أم الولد ولا يملك بيعها ولا هبتها ، ولا تورث عنه عند جماهير المسلمين ، ويملك وطأها واستخدامها باتفاقهم . وكذلك تملك المعاوضة على ذلك بالتزويج والإجارة عند أكثرهم كأبي حنيفة والشافعي وأحمد .

ويملك المرهون ويجب عليه مئونته ، ولا يملك [ فيه ] من التصرف ما يزيل حق المرتهن لا ببيع ولا هبة . وفي العتق خلاف مشهور .

والعبد المنذور عتقه ، والهدي ، والمال الذي قد نذر للصدقة بعينه ، ونحو ذلك مما استحق صرفه إلى القربة ، قد اختلف فيه الفقهاء من أصحابنا وغيرهم : هل يزال ملكه عنه بذلك أم لا ؟ وكلا القولين خارج عن قياس الملك المطلق . فمن قال : لم يزل ملكه عنه - كما [ ص: 301 ] قد يقوله أكثر أصحابنا - فهو ملك لا يملك صرفه إلا إلى الجهة المعينة بالإعتاق أو النسك أو الصدقة . وهو نظير العبد المشترى بشرط العتق أو الصدقة أو الصلة ، أو الفدية المشتراة بشرط الإهداء إلى الحرم . ومن قال : زال ملكه عنه ، فإنه يقول : هو الذي يملك عتقه وإهداءه والصدقة به . وهو أيضا خلاف قياس زوال الملك في غير هذا الموضع .

وكذلك اختلاف الفقهاء في الوقف على معين : هل يصير الموقوف ملكا لله ، أو ينتقل إلى الموقوف عليه أو يكون باقيا على ملك الواقف ؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره .

وعلى كل تقدير : فالملك الموصوف نوع مخالف لغيره من الملك في البيع أو الهبة . وكذلك ملك الموهوب له ، حيث يجوز للواهب الرجوع ، كالأب إذا وهب لابنه عند فقهاء الحديث ، كالشافعي وأحمد : نوع مخالف لغيره ، حيث سلط غير المالك على انتزاعه منه وفسخ عقده .

ونظيره : سائر الأملاك في عقد يجوز لأحد المتعاقدين فسخه ، كالمبيع بشرط عند من يقول : انتقل إلى المشتري ، كالشافعي وأحمد في أحد قوليهما ، وكالمبيع إذا أفلس المشتري بالثمن عند فقهاء الحديث وأهل الحجاز . وكالمبيع الذي ظهر فيه عيب أو فوات صفة ، عند جميع المسلمين . فهنا في المعاوضة والتبرع يملك العاقد انتزاعه ، وملك الأب لا يملك انتزاعه ، وجنس الملك يجمعهما . وكذلك ملك الابن في مذهب أحمد وغيره من فقهاء الحديث الذي اتبعوا فيه معنى الكتاب وصريح السنة .

وطوائف من السلف يقولون : هو مباح للأب مملوك للابن ، [ ص: 302 ] بحيث يكون للأب كالمباحات التي تملك بالاستيلاء ، وملك الابن ثابت عليه ، بحيث يتصرف فيه تصرفا مطلقا .

فإذا كان الملك يتنوع أنواعا ، وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته وما لم أصفه ، لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضا إلى الإنسان يثبت منه ما رأى فيه مصلحة له ، ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة له فيه . والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض . فإذا لم يكن فيه فساد ، أو كان فساده مغمورا بالمصلحة لم يحظره أبدا .

التالي السابق


الخدمات العلمية