صفحة جزء
المقدمة الثالثة : - وبها يظهر سر مسائل الأيمان ونحوها - أن صيغة التعليق التي تسمى صيغة الشرط وصيغة المجازاة تنقسم إلى ستة أنواع ؛ لأن الحالف إما أن يكون مقصوده وجود الشرط فقط ، أو وجود الجزاء فقط ، أو وجودهما . وإما أن لا يقصد وجود واحد منهما ، بل يكون مقصوده عدم الشرط فقط أو عدم الجزاء فقط أو عدمهما . فالأول : بمنزلة كثير من صور الخلع والكتابة ونذر التبرر والجعالة ونحوها . فإن الرجل إذا قال لامرأته : إن أعطيتني ألفا فأنت طالق ، أو فقد خلعتك ، أو قال لعبده : إن أديت ألفا فأنت حر ، أو قال : إن رددت عبدي الآبق فلك ألف درهم ، أو قال : إن شفى الله مريضي ، أو سلم مالي الغائب فعلي عتق كذا أو الصدقة بكذا ، فالمعلق قد لا يكون مقصوده إلا أخذ المال ورد العبد وسلامة النفس والمال . وإنما التزم الجزاء على سبيل العوض كالبائع الذي إنما مقصوده أخذ الثمن والتزم [ رد ] المبيع على سبيل العوض .

[ ص: 309 ] فهذا الضرب هو شبيه بالمعاوضة في البيع والإجارة . وكذلك إذا كان قد جعل الطلاق عقوبة لها مثل أن يقول : إذا ضربت أمي فأنت طالق ، أو إن خرجت من الدار فأنت طالق . فإنه في الخلع عوضها بالتطليق عن المال ؛ لأنها تريد الطلاق ، وهنا عوضها عن [ معصيتها ] بالطلاق .

وأما الثاني : فمثل أن يقول لامرأته : إذا طهرت فأنت طالق ، أو يقول لعبده : إذا مت فأنت حر ، أو إذا جاء رأس الحول فأنت حر ، أو فمالي صدقة ، ونحو ذلك من التعليق الذي هو توقيت محض . فهذا الضرب هو بمنزلة المنجز في أن كل واحد منهما قصد الطلاق والعتاق ، وإنما أخره إلى الوقت المعين ، بمنزلة تأجيل الدين وبمنزلة من يؤخر التطليق من وقت إلى وقت لغرض له في التأخير ، لا لعوض ولا لحلف على طلب أو خبر . ولهذا قال الفقهاء من أصحابنا وغيرهم : إذا حلف أنه لا يحلف بالطلاق ، مثل أن يقول : والله لا أحلف بطلاقك ، أو إن حلفت بطلاقك فعبدي حر ، أو فأنت طالق ، [ فإنه ] إذا قال : إن دخلت أو إن لم تدخلي ونحو ذلك مما فيه معنى الحض أو المنع : فهو حالف . ولو كان تعليقا محضا ، كقوله : إذا طلعت الشمس فأنت طالق ، أو أنت طالق إن طلعت الشمس ، فاختلفوا فيه ، قال أصحاب الشافعي : ليس بحالف ، وقال أصحاب أبي حنيفة والقاضي في الجامع : هو حالف .

وأما الثالث - وهو أن يكون مقصوده وجودهما جميعا - فمثل [ ص: 310 ] الذي قد آذته المرأة حتى أحب طلاقها واسترجاع الفدية منها ، فيقول : إن أبرأتيني من صداقك أو من نفقتك فأنت طالق ، وهو يريد كلا منهما .

وأما الرابع : وهو أن يكون مقصوده عدم الشرط ، لكنه إذا وجد لم يكره الجزاء ، بل يحبه ، أو لا يحبه ولا يكرهه . فمثل أن يقول لامرأته : إن زنيت فأنت طالق ، أو إن ضربت أمي فأنت طالق ، ونحو ذلك من التعليق الذي يقصد فيه عدم الشرط ، ويقصد وجود الجزاء عند وجوده ، بحيث إذا زنت أو إذا ضربت أمه [ يحب ] أن يفارقها ؛ لأنها لا تصلح له . فهذا فيه معنى اليمين وفيه معنى التوقيت ، فإنه منعها من الفعل وقصد إيقاع الطلاق عنده ، كما قصد إيقاعه عند أخذ العوض منها ، أو عند طهرها ، أو عند طلوع الهلال .

وأما الخامس : وهو أن يكون مقصوده عدم الجزاء [ وتعليقه ] بالشرط لئلا يوجد ، وليس له غرض في عدم الشرط فهذا قليل كمن يقول : إن أصبت مائة رمية أعطيتك كذا .

وأما السادس : وهو أن يكون مقصوده عدم الشرط والجزاء ، وإنما تعلق الجزاء بالشرط ليمتنع وجودهما فهو مثل نذر اللجاج والغضب ، ومثل الحلف بالطلاق والعتاق على حض أو منع أو تصديق أو تكذيب ، مثل أن يقال له : تصدق على فلان ، أو أصلح بين فلان وفلان ، أو حج في هذه السنة ، فيقول : إن تصدقت عليه فعليه صيام كذا ، أو فامرأته طالق ، أو فعبيده أحرار ، أو يقول : إن لم [ ص: 311 ] أفعل كذا وكذا فعلي نذر كذا ، أو امرأتي طالق ، أو عبدي حر ، أو يحلف على [ فعل ] غيره ممن يقصد منعه كعبده ونسيبه وصديقه ممن يحضه على طاعته ، فيقول له : إن فعلت ، أو إن لم تفعل ، فعلي كذا ، أو فامرأتي طالق ، أو فعبيدي أحرار ونحو ذلك .

فهذا نذر اللجاج والغضب ، وما أشبهه من الحلف بالطلاق والعتاق يخالف في المعنى نذر التبرر والتقرب وما أشبهه من الخلع والكتابة ، فإن الذي يقول : إن سلمني الله أو سلم مالي من كذا ، أو إن أعطاني الله كذا ، فعلي أن أتصدق أو أصوم أو أحج : قصده حصول الشرط الذي هو الغنيمة أو السلامة ، وقصد أن يشكر الله على ذلك بما نذره . وكذلك المخالع والمكاتب قصده حصول العوض وبذل الطلاق والعتاق عوضا عن ذلك .

وأما النذر في اللجاج والغضب فكما إذا قيل له : افعل كذا ، فامتنع من فعله ، ثم قال : إن فعلته فعلي الحج أو الصيام . فهنا مقصوده أن لا يكون الشرط ، ثم إنه لقوة امتناعه ألزم نفسه إن فعله بهذه الأمور الثقيلة عليه ليكون لزومها له إذا فعل مانعا له من الفعل ، وكذلك إذا قال : إن فعلته فامرأتي طالق ، أو فعبيدي أحرار ، إنما مقصوده الامتناع ، والتزم بتقدير الفعل ما هو شديد عليه من فراق أهله وذهاب ماله ، ليس غرض هذا أن يتقرب إلى الله بعتق أو صدقة ولا أن يفارق امرأته . ولهذا سمى العلماء هذا نذر اللجاج والغضب ، مأخوذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة : والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن [ يعطي ] [ ص: 312 ] الكفارة التي فرض الله عليه .

فصورة هذا النذر صورة نذر التبرر في اللفظ ، ومعناه شديد المباينة لمعناه . ومن هذا نشأت الشبهة التي سنذكرها في هذا الباب إن شاء الله تعالى على طائفة من العلماء . وبهذا يتبين فقه الصحابة الذين نظروا إلى معاني الألفاظ لا إلى صورها .

إذا تبينت هذه الأنواع الداخلة في قسم التعليق ، فقد علمت أن بعضها معناه معنى اليمين بصيغة القسم ، وبعضها ليس معناه معنى اليمين بصيغة القسم ، فمتى كان الشرط المقصود حضا على فعل أو منعا منه ، أو تصديقا لخبر أو تكذيبا : كان الشرط مقصود العدم هو وجزاؤه ، كنذر اللجاج والغضب والحلف بالطلاق على وجه اللجاج والغضب .

التالي السابق


الخدمات العلمية