صفحة جزء
فصل

فأما اليمين بالطلاق أو العتاق في اللجاج والغضب : فمثل أن يقصد بها حضا أو منعا ، أو تصديقا أو تكذيبا مثل قوله : الطلاق يلزمني لأفعلن كذا ، أو لا فعلت كذا ، أو إن فعلت كذا فعبيدي أحرار ، أو إن لم أفعله فعبيدي أحرار . فمن قال من الفقهاء [ ص: 321 ] المتقدمين : إن نذر اللجاج والغضب يجب فيه الوفاء ، فإنه يقول هنا : يقع الطلاق والعتاق أيضا . وأما الجمهور الذين قالوا في نذر اللجاج والغضب : تجزيه الكفارة ، فاختلفوا هنا ، مع أنه لم يبلغني عن الصحابة في الحلف بالطلاق كلام ، وإنما بلغنا الكلام فيها عن التابعين ومن بعدهم ؛ لأن اليمين به محدثة لم تكن تعرف في عصرهم . ولكن بلغنا عن الصحابة الكلام في الحلف بالعتق ، كما سنذكره إن شاء الله .

فاختلف التابعون ومن بعدهم في اليمين بالطلاق والعتاق ، فمنهم من فرق بينه وبين اليمين بالنذر وقالوا : إنه يقع الطلاق والعتاق بالحنث ، ولا تجزيه الكفارة ، بخلاف اليمين بالنذر . هذا رواية عوف عن الحسن ، وهو قول الشافعي وأحمد في الصريح المنصوص عنه ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي عبيد وغيرهم .

فروى حرب الكرماني عن معتمر بن سليمان عن عوف عن الحسن قال : " كل يمين - وإن عظمت ، ولو حلف بالحج والعمرة ، وإن جعل ماله في المساكين ، ما لم يكن طلاق امرأة في ملكه يوم حلف ، أو عتق غلام في ملكه يوم حلف - فإنما هي يمين " . وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجي : سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يقول لابنه : إن كلمتك فامرأتي طالق وعبدي حر ؟ فقال : لا يقوم هذا مقام اليمين ، ويلزمه ذلك في الغضب والرضا . وقال سليمان بن داود : يلزمه الحنث في الطلاق والعتاق . وبه قال أبو خيثمة ، قال إسماعيل : حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن [ ص: 322 ] أمية عن عثمان [ بن حاضر ] الحميري : " أن امرأة حلفت بمالها في سبيل الله أو في المساكين ، وجاريتها حرة إن لم تفعل كذا وكذا ، فسألت ابن عمر وابن عباس ، فقالا : أما الجارية فتعتق ، وأما قولها في المال ، فإنها تزكي المال " . قال أبو إسحاق إبراهيم الجوزجاني : الطلاق والعتق لا يحلان في هذا محل الأيمان ، ولو كان [ المجزئ فيها مجزئا ] في الأيمان لوجب على الحالف بها إذا حنث كفارة ، وهذا مما لا يختلف الناس فيه أن لا كفارة فيها .

قلت : أخبر أبو إسحاق بما بلغه من العلم في ذلك ، فإن أكثر مفتي الناس في ذلك الزمان - من أهل المدينة وأهل العراق أصحاب أبي حنيفة ومالك - كانوا لا يفتون في نذر اللجاج والغضب إلا بوجوب الوفاء ، لا بالكفارة . وإن كان أكثر التابعين مذهبهم فيها الكفارة ، حتى إن الشافعي لما أفتى بمصر بجواز الكفارة ، كان غريبا بين أصحابه المالكية . وقال له السائل : يا أبا عبد الله هذا قولك ؟ فقال : قول من هو خير مني ، قول عطاء بن أبي رباح .

فلما أفتى فقهاء الحديث - كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وسليمان بن داود وابن أبي شيبة وعلي المديني ونحوهم ، في الحلف بالنذر بالكفارة ، وفرق من فرق بين ذلك وبين الطلاق والعتاق لما سنذكره ، صار الذي يعرف قول هؤلاء وقول أولئك لا يعلم خلافا في الطلاق والعتاق ، وإلا فسنذكر الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وقد اعتذر أحمد عما ذكرناه عن الصحابة في كفارة العتق بعذرين :

أحدهما : انفراد سليمان التيمي بذلك .

[ ص: 323 ] والثاني : معارضته بما رواه عن ابن عمر وابن عباس : أن العتق يقع من غير تكفير . وما وجدت أحدا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد ، فقال المروزي : قال أبو عبد الله : إذا قال : كل مملوك له حر ، فيعتق عليه إذا حنث ؛ لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة ، وقال : ليس يقول : كل مملوك لها حر ، في حديث ليلى بنت العجماء حديث أبي رافع : " أنها سألت ابن عمر وحفصة وزينب ، وذكرت العتق ، فأمروها بالكفارة " إلا التيمي . وأما حميد وغيره فلم يذكروا العتق . قال : سألت أبا عبد الله عن حديث أبي رافع ، قصة حلف مولاته ليفارقن امرأته ، وأنها سألت ابن عمر وحفصة ، فأمروها بكفارة يمين . قلت : فيها شيء ؟ قال : نعم ، أذهب إلى أن فيه كفارة يمين ، قال أبو عبد الله : ليس يقول فيه : " كل مملوك " إلا التيمي . قلت : فإذا حلف بعتق مملوكه فحنث ؟ قال : يعتق .

كذا يروي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا : " الجارية تعتق " ، ثم قال : ما سمعناه إلا من عبد الرزاق عن معمر . قلت : فأيش إسناده ؟ قال : معمر عن إسماعيل ، عن عثمان [ بن حاضر ] ، عن ابن عمر وابن عباس .

وقال إسماعيل بن أمية وأيوب بن موسى ، وهما مكيان : [ وقد فرقا ] بين الحلف بالطلاق والعتق والحلف بالنذر ؛ [ لأنهما ] لا يكفران ، واتبع ما بلغه في ذلك [ عن ابن عمر وابن عباس وبه عارض ما رواه من الكفارة ] عن ابن عمر وحفصة وزينب ، مع انفراد التيمي بهذه الزيادة . وقال صالح بن [ ص: 324 ] أحمد : قال أبي : وإذا قال : جاريتي حرة إن لم أصنع كذا وكذا ، قال : قال ابن عمر وابن عباس : تعتق . وإذا قال : كل مالي في المساكين ، لم يدخل فيه جاريته [ فيه كفارة ] ، فإن هذا لا يشبه هذا - ألا ترى أن ابن عمر فرق بينهما - العتق والطلاق لا يكفران - وأصحاب أبي حنيفة يقولون : إذا قال الرجل : مالي في المساكين : إنه يتصدق به على المساكين ، وإذا قال : مالي على فلان صدقة ، كذلك ، وفرقوا بين قوله : إن فعلت كذا فمالي صدقة ، أو فعلي الحج ، وبين قوله : فامرأته طالق ، أو فعبدي حر : بأنه هناك [ موجب ] القول وجوب الصدقة والحج ، لا وجود الصدقة والحج .

فإذا اقتضى الشرط وجوب ذلك كانت الكفارة بدلا عن هذا الواجب ، كما تكون بدلا عن غيره من الواجبات . كما كانت في أول الإسلام بدلا عن الصوم الواجب ، وبقي الإطعام بدلا عن الصوم عن العاجز عنه . وكما تكون بدلا عن الصوم الواجب في ذمة الميت ، فإن الواجب إذا كان في الذمة أمكن أن يخير بين أدائه وبين أداء غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية