صفحة جزء
وأيضا : فمما يبين دخول الحلف بالنذر والطلاق والعتاق في اليمين والحلف في كلام الله ورسوله ، ما روى ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف على يمين فقال : إن شاء الله ، فلا حنث عليه " . رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي ، وقال : حديث حسن . ولفظ أبي داود قال : [ حدثنا أحمد بن حنبل قال ] : حدثنا سفيان عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر - يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من حلف على يمين فقال : إن شاء الله ، فقد استثنى " ، ورواه أيضا من طريق عبد [ الوارث ] عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف فاستثنى فإن شاء رجع ، وإن شاء ترك ، غير حنث " .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف فقال : إن شاء الله ، لم يحنث " ، رواه أحمد والترمذي وابن ماجه ، ولفظه : " فله ثنياه " ، والنسائي وقال : " فقد استثنى " .

ثم عامة الفقهاء أدخلوا الحلف بالنذر وبالطلاق وبالعتاق في هذا الحديث وقالوا : ينفع فيه الاستثناء بالمشيئة ، بل كثير من أصحاب أحمد يجعل الحلف بالطلاق لا خلاف فيه في مذهبه ، وإنما الخلاف [ ص: 345 ] فيما إذا كان بصيغة الجزاء ، وإنما الذي لا يدخل عند أكثرهم هو نفس إيقاع الطلاق والعتاق . والفرق بين إيقاعهما والحلف بهما ظاهر . وسنذكر إن شاء الله قاعدة الاستثناء .

فإذا كانوا قد أدخلوا الحلف بهذه الأشياء في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف على يمين فقال : إن شاء الله ، فلا حنث عليه " ، فكذلك يدخل في قوله : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه " ، فإن كلا اللفظين سواء ، وهذا واضح لمن تأمله .

فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف على يمين ، فقال : إن شاء الله ، فلا حنث عليه " ، لفظ العموم فيه مثله في قوله : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " . وإذا كان لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حكم الاستثناء هو لفظه في حكم الكفارة : وجب أن يكون كل ما ينفع فيه الاستثناء ينفع فيه التكفير ، وكل ما ينفع فيه التكفير ينفع فيه الاستثناء ، كما نص عليه أحمد في غير موضع .

ومن قال : إن الرسول قصد بقوله : " من حلف على يمين ، فقال : إن شاء الله ، فلا حنث عليه " جميع الأيمان التي يحلف بها ، من اليمين بالله وبالنذر وبالطلاق وبالعتاق ، وأما قوله : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها إلخ " إنما قصد به اليمين بالله ، أو اليمين بالله والنذر ، فقوله ضعيف . فإن حضور موجب أحد اللفظين بقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل حضور موجب اللفظ الآخر ، إذ كلاهما لفظ واحد ، والحكم فيهما من جنس واحد ، وهو [ رفع ] اليمين : إما بالاستثناء ، وإما بالتكفير .

[ ص: 346 ] وبعد هذا فاعلم أن الأمة انقسمت في دخول الطلاق والعتاق في حديث الاستثناء على ثلاثة أقسام :

فقوم قالوا : يدخل في ذلك الطلاق والعتاق أنفسهما ، حتى لو قال : أنت طالق إن شاء الله ، وأنت حر إن شاء الله ، دخل ذلك في عموم الحديث . وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما .

وقوم قالوا : لا يدخل في ذلك الطلاق والعتاق ، لا إيقاعهما ولا الحلف بهما ، لا بصيغة الجزاء ولا بصيغة القسم . وهذا أشهر القولين في مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد .

والقول الثالث : أن إيقاع الطلاق والعتاق لا يدخل في ذلك ، بل يدخل فيه الحلف بالطلاق والعتاق . وهذه الرواية الثانية عن أحمد ، ومن أصحابه من قال : إن كان الحلف بصيغة القسم دخل في الحديث ، ونفعته المشيئة ، رواية واحدة ، وإن كان بصيغة الجزاء ففيه روايتان .

وهذا القول الثالث هو الصواب المأثور معناه عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمهور التابعين . فإن ابن عباس وأكثر التابعين - كسعيد بن المسيب والحسن - لم يجعلوا في الطلاق استثناء ، ولم يجعلوه من الأيمان .

ثم قد ذكرنا عن الصحابة وجمهور التابعين : أنهم جعلوا الحلف بالصدقة والهدي والعتاقة ونحو ذلك يمينا مكفرة . وهذا معنى قول أحمد في غير موضع : لا استثناء في الطلاق والعتاق ، ليسا من الأيمان .

وقال أيضا : الثنيا في الطلاق لا أقول بها . وذلك أن الطلاق والعتاق حرفان واقعان .

[ ص: 347 ] وقال أيضا : إنما يكون الاستثناء فيما يكون فيه كفارة ، والطلاق والعتاق لا يكفران ، وهذا الذي قاله ظاهر .

وذلك أن إيقاع الطلاق والعتاق ليسا يمينا أصلا ، وإنما هو بمنزلة العفو عن القصاص والإبراء من الدين ، ولهذا لو قال : والله لا أحلف على يمين ، ثم إنه أعتق عبيدا له ، أو طلق امرأته ، أو أبرأ غريمه من دم أو مال أو عرض ، فإنه لا يحنث ، ما علمت أحدا خالف في ذلك .

فمن أدخل إيقاع الطلاق والعتاق في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف على يمين فقال : إن شاء الله ، لم يحنث " ، فقد حمل العام ما لا يحتمله ، كما أن من أخرج من هذا العام قوله : الطلاق يلزمني لأفعلن كذا ، أو لا أفعله إن شاء الله ، أو إن فعلته فامرأتي طالق إن شاء الله ، فقد أخرج من القول العام ما هو داخل فيه . فإن هذا اليمين بالطلاق والعتاق [ وهنا ينبغي تقليد أحمد بقوله : الطلاق والعتاق ] ليسا من الأيمان ، فإن الحلف بهما كالحلف بالصدقة والحج ونحوهما . وذلك معلوم بالاضطرار عقلا وعرفا وشرعا . ولهذا لو قال : والله لا أحلف على يمين أبدا ، ثم قال : إن فعلت كذا فامرأتي طالق : حنث .

وقد تقدم أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سموه يمينا [ وكذلك الفقهاء كلهم سموه يمينا ] وكذلك عامة المسلمين يسمونه يمينا . فمعنى اليمين موجود فيه ، فإنه إذا قال : أحلف بالله لأفعلن إن [ ص: 348 ] شاء الله ، فإن المشيئة تعود عند الإطلاق إلى الفعل المحلوف عليه . والمعنى : إني حالف على هذا الفعل إن شاء الله فعله ، فإذا لم يفعله لم يكن قد شاءه ، فلا يكون ملتزما له ، وإلا فلو نوى عوده إلى الحلف ، بأن يقصد أني حالف إن شاء الله أن أكون حالفا : كان معنى هذا [ معنى ] الاستثناء في الإنشاءات ، كالطلاق والعتاق ، وعلى مذهب الجمهور لا ينفعه ذلك . وكذلك قوله : الطلاق يلزمني لأفعلن كذا إن شاء الله ، تعود المشيئة عند الإطلاق إلى الفعل . فالمعنى : لأفعلنه إن شاء الله فعله ، فمتى لم يفعله لم يكن الله قد شاءه ، فلا يكون ملتزما للطلاق ، بخلاف ما لو عنى : الطلاق يلزمني إن شاء الله لزومه إياه . فإن هذا بمنزلة قوله : أنت طالق إن شاء الله .

وقول أحمد : " إنما يكون الاستثناء فيما فيه الكفارة ، والطلاق والعتاق لا يكفران " كلام حسن بليغ ، لما تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرج حكم الاستثناء وحكم الكفارة مخرجا واحدا [ بصيغة الجزاء ] بصيغة واحدة ، فلا يفرق بين ما جمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأن الاستثناء إنما يقع لما علق به الفعل ، فإن الأحكام التي هي الطلاق والعتاق ونحوهما : لا تعلق على مشيئة الله بعد وجود أسبابها ، فإنها واجبة بوجود أسبابها ، فإذا انعقدت أسبابها فقد شاءها الله . وإنما تعلق على المشيئة الحوادث التي قد يشاؤها الله وقد لا يشاؤها من أفعال العباد ونحوها . والكفارة إنما شرعت لما يحصل من الحنث في اليمين التي قد يحصل فيها الموافقة : بالبر تارة ، والمخالفة بالحنث أخرى . فوجوب الكفارة بالحنث في اليمين التي تحتمل الموافقة والمخالفة ، كارتفاع اليمين [ ص: 349 ] بالمشيئة التي تحتمل التعليق وعدم التعليق . فكل من حلف على شيء ليفعله فلم يفعله فإنه إن علقه بالمشيئة فلا حنث عليه ، وإن لم يعلقه بالمشيئة لزمته الكفارة . فالاستثناء والتكفير يتعاقبان اليمين ، إذا لم يحصل فيها الموافقة .

فهذا أصل صحيح يدفع ما وقع في هذا الباب من الزيادة أو النقص على ما أوجبه كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

ثم يقال بعد ذلك : قول أحمد وغيره : " الطلاق والعتاق لا يكفران " ، كقوله وقول غيره : لا استثناء فيهما . وهذا في إيقاع الطلاق والعتاق . أما الحلف بهما فليس تكفيرا لهما ، وإنما هو تكفير للحلف بهما ، كما أنه إذا حلف بالصلاة والصيام والصدقة والحج والهدي ونحو ذلك في نذر اللجاج والغضب : فإنه لم يكفر الصلاة والصيام [ والصدقة ] والهدي والحج ، وإنما يكفر الحلف بهما ، وإلا فالصلاة لا كفارة فيها ، وكذلك هذه العبادات لا كفارة فيها لمن يقدر عليها ، وكما أنه إذا قال : إن فعلت كذا فعلي أن أعتق ، فإن عليه الكفارة بلا خلاف في مذهب أحمد وموافقيه من القائلين بنذر اللجاج والغضب . وليس ذلك تكفيرا للعتق ، وإنما هو تكفير للحلف به .

فلازم قول أحمد هذا : أنه إذا جعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء : كان الحلف بهما تصح فيه الكفارة . وهذا موجب سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قدمناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية