صفحة جزء
الحيلة الرابعة : السريجية ، في إفساد المحلوف به أيضا ، لكن [ ص: 355 ] لوجود مانع ، لا لفوات شرط . فإن أبا العباس بن سريج وطائفة بعده اعتقدوا أنه إذا قال لامرأته : إذا وقع عليك طلاقي أو طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا ؛ أنه لا يقع بعد ذلك عليها طلاق أبدا ؛ لأنه إذا وقع المنجز لزم وقوع المعلق ، فإذا وقع المعلق امتنع وقوع المنجز ، فيفضي وقوعه إلى عدم وقوعه فلا يقع . وأما عامة فقهاء الإسلام من جميع الطوائف فأنكروا ذلك ، بل رأوه من الزلات التي يعلم بالاضطرار كونها ليست من دين الإسلام ؛ حيث قد علم بالضرورة من دين محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن الطلاق أمر مشروع في كل نكاح ، وأنه ما من نكاح إلا ويمكن فيه الطلاق .

وسبب الغلط : أنهم اعتقدوا صحة هذا الكلام ، فقالوا : إذا وقع المنجز وقع المعلق ، وهذا الكلام ليس بصحيح ، فإنه يستلزم وقوع طلقة مسبوقة بثلاث ، ووقوع طلقة مسبوقة بثلاث ممتنع في الشريعة ، والكلام المشتمل على ذلك باطل ، وإذا كان باطلا لم يلزم من وقوع المنجز وقوع المعلق ؛ لأنه إنما يلزم إذا كان التعليق صحيحا .

ثم اختلفوا : هل يقع من المعلق تمام الثلاث ، أم يبطل التعليق ولا يقع إلا المنجز ؟ على قولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما .

وما أدري : هل استحدث ابن سريج هذه المسألة للاحتيال على رفع الطلاق ، أم قالها طردا لقياس اعتقد صحته ، واحتال بها من بعده ؟ لكني رأيت مصنفا لبعض المتأخرين بعد المائة الخامسة صنفه في هذه المسألة ، ومقصوده بها الاحتيال على عدم وقوع الطلاق . ولهذا صاغوها بقولهم : إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا ؛ لأنه لو قال : إذا طلقتك فأنت طالق [ قبله ] ثلاثا : لم تنفعه هذه [ ص: 356 ] الصيغة في الحيلة ، وإن كان كلاهما في الدور سواء ، وذلك لأن الرجل إذا قال لامرأته : إذا طلقتك فعبدي حر ، أو فأنت طالق ، لم يحنث إلا بتطليق ينجزه بعد هذه اليمين ، أو يعلقه بعدها على شرط فيوجد ، فإن كل واحد من المنجز والمعلق الذي وجد شرطه تطليق . أما إذا كان قد علق طلاقها قبل هذه اليمين بشرط ووجد الشرط بعد هذه اليمين : لم يكن مجرد وجود الشرط ووقوع الطلاق به تطليقا ؛ لأن التطليق لا بد أن يصدر عن المطلق ، [ ووجود ] الطلاق بصفة يفعلها غيره ليس فعلا منه . فأما إذا قال : إذا وقع عليك طلاقي ، فهذا يعم المنجز والمعلق بعد هذا بشرط ، والواقع بعد هذا بشرط تقدم تعليقه .

فصوروا المسألة بصورة قوله : إذا وقع عليك طلاقي ، حتى إذا حلف الرجل بالطلاق لا يفعل شيئا ، قالوا له : قل : إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا ، فيقول ذلك ، فيقولون له : افعل الآن ما حلفت عليه ، فإنه لا يقع عليك طلاق .

فهذا التسرج المنكر عند عامة أهل الإسلام ، المعلوم يقينا أنه ليس من الشريعة التي بعث الله بها محمدا - صلى الله عليه وسلم ، إنما نفقه في الغالب ما أحوج كثيرا من الناس إليه من الحلف بالطلاق ، وإلا فلولا ذلك لم يدخل فيه أحد ؛ لأن العاقل لا يكاد يقصد سد باب الطلاق عليه إلا نادرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية