صفحة جزء
أما فساد الدين : فإن الطلاق منهي عنه مع استقامة حال الزوجين باتفاق العلماء ، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات " ، وقال : " أيما امرأة سألت زوجها [ ص: 360 ] الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة " .

وقد اختلف العلماء : هل هو محرم أو مكروه ؟ وفيه روايتان عن أحمد ، وقد استحسنوا جواب أحمد لما سئل عمن حلف بالطلاق ليطأن امرأته وهي حائض ؟ فقال : يطلقها ولا يطأها ، قد أباح الله الطلاق وحرم وطء الحائض .

وهذا الاستحسان يتوجه على أصلين : إما على قوله : إن الطلاق ليس بحرام ، [ وإما أن ] يكون تحريمه دون تحريم الوطء ، وإلا فإذا كان كلاهما حراما لم يخرج من حرام إلا إلى حرام .

وأما ضرر الدنيا : فأبين من أن يوصف . فإن لزوم الطلاق المحلوف به في كثير من الأوقات يوجب من الضرر ما لم تأت به الشريعة الإسلامية في مثل هذا قط ، فإن المرأة الصالحة تكون في صحبة زوجها الرجل الصالح سنين كثيرة ، وهي متاعه التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم : " الدنيا متاع ، وخير متاعها المرأة المؤمنة ، إن نظرت إليها أعجبتك ، وإن أمرتها أطاعتك ، وإن غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك " ، وهي التي أمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله لما سأله المهاجرون : " أي المال خير فنتخذه ؟ فقال : أفضله : لسان ذاكر وقلب شاكر وامرأة صالحة تعين أحدكم على إيمانه " ، رواه الترمذي من حديث سالم بن أبي [ ص: 361 ] الجعد عن ثوبان . ويكون بينهما من المودة والرحمة ما امتن الله به في كتابه بقوله : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [ الروم : 21 ] ، فيكون ألم الفراق أشد عليهما من الموت أحيانا ، وأشد من ذهاب المال ، وأشد من فراق الأوطان ، خصوصا إن كان بقلب كل واحد منهما حب وعلاقة من صاحبه ، أو كان بينهما أطفال يضيعون بالفراق ويفسد حالهم ، ثم يفضي ذلك إلى القطيعة بين أقاربهما ، ووقوع الشر لما زالت نعمة المصاهرة التي امتن الله بها في قوله : فجعله نسبا وصهرا [ الفرقان : 54 ] ، ومعلوم أن هذا من الحرج الداخل في عموم قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] ، ومن العسر المنفي بقوله : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] .

وأيضا : فلو كان المحلوف عليه بالطلاق فعل بر وإحسان من صدقة وعتاقة وتعليم علم وصلة رحم وجهاد في سبيل الله ، وإصلاح بين الناس ، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي يحبها الله ويرضاها ، فإنه لما عليه من الضرر العظيم في الطلاق لا يفعل ذلك ، بل ولا يؤمر به شرعا ؛ لأنه قد يكون الفساد الناشئ من الطلاق أعظم من الصلاح الحاصل من هذه الأعمال ، وهذه المفسدة هي التي أزالها الله بقوله : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم [ البقرة : 124 ] ، وأزالها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم عند الله من أن يأتي الكفارة التي فرض الله " .

فإن قيل : فهو الذي أوقع نفسه في أحد هذه المضرات الثلاث ، فما كان ينبغي له أن يحلف .

[ ص: 362 ] قيل : ليس في شريعتنا ذنب إذا فعله الإنسان لم يكن له مخرج منه بالتوبة إلا بضرر عظيم ، فإن الله لم يحمل علينا إصرا كما حمله على الذين من قبلنا . فهب أن هذا قد أتى كبيرة من الكبائر في حلفه بالطلاق ، ثم تاب من تلك الكبيرة ، فكيف يناسب أصول شريعتنا أن يبقى أثر ذلك الذنب عليه ، لا يجد منه مخرجا ؟ وهذا بخلاف الذي ينشئ الطلاق ، لا بالحلف عليه ، فإنه لا يفعل ذلك إلا وهو مريد للطلاق : إما لكراهته للمرأة ، أو غضبه عليها ونحو ذلك .

وقد جعل الله الطلاق ثلاثا ، فإذا كان إنما يتكلم بالطلاق باختياره ، [ ووالى ] ثلاث مرات متفرقات ، كان وقوع الضرر في مثل هذا نادرا بخلاف الأول ، فإن مقصوده لم يكن الطلاق ، وإنما كان أن يفعل المحلوف عليه ، أو لا يفعله . ثم قد يأمره الشرع ، أو تضطره الحاجة إلى فعله أو تركه ، فيلزمه الطلاق بغير اختياره له ولا لسببه .

وأيضا : فإن الذي بعث الله به محمدا - صلى الله عليه وسلم - في باب الأيمان : تخفيفها بالكفارة ، لا تثقيلها بالإيجاب أو التحريم ، فإنهم كانوا في الجاهلية يرون الظهار طلاقا ، واستمروا على ذلك في أول الإسلام حتى ظاهر أوس بن الصامت - رضي الله عنه - من امرأته .

وأيضا : فالاعتبار بنذر اللجاج والغضب ، فإنه ليس بينهما من الفرق إلا ما ذكرناه ، وسنبين إن شاء الله عدم تأثيره . والقياس بإلغاء الفارق أصح ما يكون من الاعتبار باتفاق العلماء المعتبرين .

وذلك : أن الرجل إذا قال : إن أكلت أو شربت فعلي أن أعتق [ ص: 363 ] عبدي ، أو فعلي أن أطلق امرأتي ، أو فعلي الحج ، أو فأنا محرم بالحج ، أو فمالي صدقة ، أو فعلي صدقة : فإنه تجزئه كفارة يمين عند الجمهور ، كما قدمناه بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ، فكذلك إذا قال : إن أكلت هذا أو شربت هذا فعلي الطلاق ، أو فالطلاق لي لازم ، أو فامرأتي طالق ، أو فعبيدي أحرار . وإن قال : علي الطلاق لا أفعل كذا ، أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا ، فهو بمنزلة قوله : علي الحج لا أفعل كذا ، أو الحج لي لازم لا أفعل كذا ، وكلاهما يمينان محدثتان ليستا مأثورتين عن العرب ، ولا معروفتين عند الصحابة .

وإنما المستأخرون صاغوا من هذه المعاني أيمانا ، وربطوا إحدى الجملتين بالأخرى ، كالأيمان التي كان المسلمون من الصحابة يحلفون بها ، وكانت العرب تحلف بها ، لا فرق بين هذا وهذا ، إلا أن قوله : إن فعلت كذا فمالي صدقة : يقتضي وجوب الصدقة عند الفعل ، وقوله : فامرأتي طالق : يقتضي وجود الطلاق . فالكلام يقتضي وقوع الطلاق بنفس الشرط ، وإن لم يحدث بعد هذا طلاقا ، ولا يقتضي وقوع الصدقة حتى يحدث صدقة .

وجواب هذا الفرق الذي اعتمده الفقهاء المفرقون من وجهين :

أحدهما : منع الوصف الفارق في بعض الأصول المقيس عليها ، وفي بعض صور الفروع المقيس عليها .

والثاني : بيان عدم التأثير .

أما الأول : فإنه إذا قال : إن فعلت كذا فمالي صدقة ، أو فأنا محرم ، أو فبعيري هدي : فالمعلق بالصفة وجود الصدقة والإحرام [ ص: 364 ] والهدي ، لا وجوبها ، كما أن المعلق في قوله : فعبدي حر ، وامرأتي طالق : وجود الطلاق والعتق ، لا وجوبهما . ولهذا اختلف الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ، فيما إذا قال : هذا هدي ، وهذا صدقة لله ، هل يخرج عن ملكه أو لا يخرج ؟ فمن قال : يخرج عن ملكه ، فهو كخروج زوجه وعبده عن ملكه . أكثر ما في الباب : أن الصدقة والهدي يتملكها الناس ، بخلاف الزوجة والعبد ، وهذا لا تأثير له . وكذلك لو قال : علي الطلاق لأفعلن كذا ، أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا ، فهو كقوله : علي الحج لأفعلن كذا ، فهو جعل المحلوف به هنا وجوب الطلاق لا وجوده كأنه قال : إن فعلت كذا فعلي أن أطلق .

فبعض صور الحلف بالطلاق يكون المحلوف به صيغة وجوب ، كما أن بعض صور الحلف بالنذر يكون المحلوف به صيغة وجود .

وأما الجواب الثاني : فنقول : هب أن المعلق بالفعل هنا وجود الطلاق والعتاق ، والمعلق هناك وجوب الصدقة والحج والصيام والإهداء ، أليس موجب الشرط ثبوت هذا الوجوب وذاك الوجود عند وجود الشرط ؟

فإذا كان عند الشرط لا يثبت ذلك الوجوب ، بل يجزيه كفارة يمين ، فكذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجود ، بل يجزيه كفارة يمين ، كما لو قال : هو يهودي أو نصراني أو كافر إن فعل كذا ، فإن المعلق هنا وجود الكفر عند الشرط ، ثم إذا وجد الشرط لم يوجد [ ص: 365 ] الكفر بالاتفاق ، بل يلزمه كفارة يمين أو لا يلزمه شيء . ولو قال ابتداء : هو يهودي أو نصراني أو كافر : للزمه الكفر ، بمنزلة قوله ابتداء : عبدي حر وامرأتي طالق ، وهذه البدنة هدي ، وعلي صوم يوم الخميس . ولو علق الكفر بشرط يقصد وجوده كقوله : إذا أهل الهلال فقد برئت من دين الإسلام ، لكان الواجب أن يحكم بكفره ، لكن لا [ يتأخر ] الكفر ، لأن توقيته دليل على فساد عقيدته .

فإن قيل في الحلف بالنذر : إنما عليه الكفارة فقط .

قيل مثله في الحلف بالعتق ، وكذلك في الحلف بالطلاق ، كما لو قال : فعلي أن أطلق امرأتي .

ومن قال : إنه إذا قال : " فعلي أن أطلق امرأتي " لا يلزمه شيء ، فقياس قوله في الطلاق : لا يلزمه شيء . ولهذا توقف طاوس في كونه يمينا .

وإن قيل : إنه يخير بين الوفاء به والتكفير ، فكذلك هنا يخير بين الطلاق والعتق وبين التكفير . فإن وطئ امرأته كان اختيارا منه للتكفير ، كما أنه في الظهار يكون مخيرا بين التكفير وبين تطليقها ، فإن وطئها لزمته الكفارة ، لكن في الظهار لا يجوز له الوطء حتى يكفر ؛ لأن الظهار منكر من القول وزور حرمها عليه . وأما هنا فقوله : إن فعلت فهي طالق ، فهو بمنزلة قوله : فعلي أن أطلقها . أو قال : والله لأطلقنها ، فإن طلقها فلا شيء عليه ، وإن لم يطلقها فعليه كفارة يمين .

يبقى أن يقال : فهل تجب الكفارة على الفور إذا لم يطلقها [ ص: 366 ] حينئذ ، كما لو قال : والله لأطلقنها الساعة ولم يطلقها ، أو لا تجب إلا إذا عزم على إمساكها ، أو لا تجب إلا إذا وجد منه ما يدل على الرضا بها من قول أو فعل ، كالذي يخير بين فراقها وإمساكها لعيب ونحوه ، وكالمعتقة تحت عبد ، أو لا تجب بحال حتى يفوت الطلاق ؟ قيل الحكم في ذلك كما لو قال : فثلث مالي صدقة أو هدي ونحو ذلك .

والأقيس في ذلك : أنه مخير بينهما على التراخي ، ما لم يوجد منه ما يدل على الرضى بأحدهما ، كسائر أنواع الخيار .

التالي السابق


الخدمات العلمية